بلقيس شرارة
التقيت بالمعمار يورغن أوتسن/ Jorn Outzen، عام 1956، عندما أحيلت عليه اوبرا سدني بعد المسابقة التي شاركت بها 32 دولة، وأكثر من مائتين معمار. وقد اعجب بالتصميم المعمار إيرو سارانين/ Eero Saarinen، الذي كان أحد المحكمين ووصفها بأنها تصميم شخص "عبقري" ، واعلن أنه لا يؤيد أي تصميم آخر. كان شاباً في تلك الفترة، لكنه كان مطلعاً على العمارة في معظم أقطار العالم، فقد زار الصين والهند والمسكيك، وغيرها من الدول ذات الحضارات العريقة.
كان أوتسن في طريقه إلى سدني عندما وصل بغداد، وكانت السفارة الدنمارية من أملاك رؤوف الجادرجي عم رفعة، ونشرت مجلة L, Architecture D,ajourd,hui، آنذاك تصميمم إحدى عمارات رفعة في نفس العدد التي نشرت تصميم أوتسن للأوبرا عام 1956، فعندما وصل بغداد في طريقه إلى سدني- استراليا، سأل السفير الدنماركي عن رفعة الجادرجي، ودعي رفعة للتعرف عليه، ودعاه رفعة إلى دارنا والتقى بالفنانين والمعماريين، وتوطدت علاقة ودية بينهما. في تلك الأثناء اعلنت شركة الكهرباء الوطنية مسابقة معمارية لتشييد عمارة لمقرها. وفكّر رفعة في ان من الأفضل ان يتصل مع أحد المعماريين الدوليين الطليعيين، لكي يكتسب في نفس الوقت خبرة من نوع آخر. فكتب إلى المعمار يورغن أوتسن عارضاً عليه الاشتراك معه في المسابقة، فوافق أوتسن. وتم الإتفاق بينهما على ان يقوم رفعة بتطوير المفهوم العام للتصميم ويقوم أوتسن لغرض التقديم للدائرة التي أعلنت المسابقة.
وذكر رفعة: (وجدت نفسي أمام تحدي مهني، تحدٍ شاهق وشيق على حد سواء. فقررت أن أخوض معضلة تعدد الطوابق هنا في هذا المشروع، محاولاً إيجاد الحلول لإشباع المتطلبات الحضرية بموجب الصيغ التي كنت بلورتها).
اقترب التقديم للمسابقة، وكان على رفعة ان يعرض على أوتسن دراسته الأولية، ويبقى معه في الدنمارك بضعة أيام لكي يبحث معه مبادئ تطوير التصميم، ثم يقوم هو باكمال مستلزمات المسابقة. وفكّر رفعة في أن يقلب مفهوم الحوش منطلقاً بالعمل ولكن بالمقلوب، (أي لمَ لا أقلب مفعول الحوش الحراري من الداخل إلى الخارج "قلب البطانة" كما يقال).
وعندما سافرنا للدنمارك عام 1962، لم يكن مع رفعة: ( إلا سكيج يبين بصورة تخطيطية، مبادئ فكرتي عن الحوش المقلوب الذي سميته الجدار العاكس… وبهذا السكيج شعرت أنني استطيع مواجهة أوتسن، ويعتبر من المبدعين القلائل في الدنمارك وفي العالم).
وعندما قابله رفعة وتبادلا الأفكار والسكجات، وجد رفعة (أن أوتسن قد هيأ تصميماً يعتمد على حل تساومي، بين الستارة المثقبة والكتفيات المعلقة المتموجة السطوح، بتأثير من آلتو). وعندما بيّن رفعة له رأيه، لم يتفقا، (وتم التخلي عن دراسته، وتطوير دراستي المعتمدة على الجدران العاكسة)، واعجب أوتسن بفكرتها إعجاباً كلياً وخاصة بعد أن بيّن له رفعة الخلفية التاريخية والبيئية في العراق ووضعا خطة لتطوير المشروع وإكماله وإرساله إلى بغداد في وقت مناسب لغرض تقديمه للمسابقة. وبعد ان عدنا إلى بغداد، استلم رفعة رسالة من أوتسن (يعتذر فيها عن الاشتراك في المشروع، لأنه لم يتمكن من تطويره) واضطر رفعة بدوره لترك الاشتراك بالمسابقة.
قضينا اسبوعاً معاً، فقد دعانا أوتسن للإقامة في داره التي تبعد نصف ساعة عن العاصمة كوبنهاكن، كانت الدار جميلة، تقع على حافة غابة في Hellelbaek، في الدنمارك. كنت أقضي وقتي مع زوجته كان لز/ Can Liz واطفاله، الذين اصبحو فيما بعد معماريين والمسؤولين عن مكتب والدهم، وفي المساء كنا نذهب سوية إلى أحد المطاعم.
وكان أوتسن صاحب نكتة، ويضحك عندما يتحدث عن بعض المسؤولين في العاصمة سدني، الذين طلبوا منه دعوة أوركسترا لائقة بافتتاح الأوبرا التي كانت ما تزال قيد التصميم.
وتطغى على أعمال أوتسن خلفية العمارة العضوية ومصدرها تأثره بالمعمار الأمريكي فرنك لويد رايت، والمعمار الفلندي ألفار آلتو وقد عمل بعض الوقت معه. وقد زار مكتب فرنك لويد رايت في أريزونا في تيللا هاسي، عندما سافر إلى الولايات المتحدة.
كما سافر أوتسن إلى اماكن عديدة بعد ان انهى دراسته في عام 1942، من الدول التي زارها مراكش، وانبهر في الأبنية الطينية المتكونة من عدة طوابق، كما انبهر بالاهرامات في المكسيك عندما زارها وكان معجباً بحضارة المايا القديمة في المكسيك، كما تأثر بالحضارة الإسلامية و حضارتي الصين واليابان.
كان لخلفية أوتسن بالنسبة للطبيعة تأثير كبير، كونه من المناطق الشمالية في أوربا، فقد اثرت على تصاميمه الهندسية، من حيث تأكيده على طبيعة المكان والبيئة، ومن حيث التآلف وتركيب الشكل والمواد والوظيفة بالنسبة لقيم البيئة الإجتماعية.
وبعد ان حصل على مسابقة أوبرا سدني، بدأ العمل بها في عام 1959، فقد كلف العمل إلى مؤسسة أوف أراب/ Ove Arup and Partner، لكي يكونوا مسؤولين عن البناء من الناحية الهندسية Structure، ومكتبه مسؤول عن الناحية المعمارية. وقد كان المهندسين المدنيين في حيرة من كيفية حل مشكلة وجود حلول إلى تثبيت البناء الذي هو على شكل الصدف البحري. واقام أوتس في العاصمة سدني حتى عام 1966، لكنه لم يكن مرتاحاً أثناء بناء الأوبرا من قبل بعض المسؤولين، فقد أوقف العمل مرات عديدة، حتى ان بعضهم فكّر في إلغاء المشروع، مما اضطره الى الإستقالة عام 1966، واغلاق مكتبه والعودة إلى الدنمارك. وكلُف بيتر هول / Peter Hall في إكمالها، وافتتحت عام 1973، بعد ستة عشر عاماً، وكلفّت مبالغ باهضة، لم تكن الحكومة الإسترالية تتوقع تلك الكلفة. واشتملت على عدة ابنية، الأوبرا وبناية إلى مسرح سدني وأخرى إلى الأوركسترا.
كان التصميم متقدم على زمانه كما قال عنه المعمار الكندي الأمريكي فرنك كيري/ Frank Gehry، عندما حصل أوتسن على جائزة Pritzker، ( ان تصميم يورغن أوتسن متقدم على زمانه، ومتقدم على التقنية التي كانت متوفرة آنذاك، ومن خلال الجدل الذي أثير حول التصميم إن كان من الناحية السلبية او الإجابية، فقد بنيت عمارة غيّرت بدورها صورة البلد).
إذ بعد اكتمالها، اصبحت من أشهر وأميز عمارات القرن العشرين، وتم افتتاحها من قبل الملكة إليزابث الثانية، ملكة إنكلترا، وقد وجّهت الدعوة إلى أوتسن لكنه رفض حضور الإفتتاح. واصبحت من الأبنية التي تزار عند زيارة سدني، ويقدر عدد الزوار سنوياً 350 ألف زائر، ومنذ افتتاحها زارها أكثر من ثمانية ملايين. واعتبرت البناية في عام 2007 من قبل منظمة الأينسكو معَلْم حضاري مهم، كما اصبحت من المعالم الحضارية التي يجب المحافظة عليها، وهو ثاني معمار بعد أوسكار نيماير/Oscar Niemeyer، أعتبرت بنايته معلماً حضارياً من قبل الأينسكو وما زال مصممها حياً على قيد الحياة. كما صمم أوتسن (بنك ميلي) في إيران أثناء حكم شاه إيران.
واستمرت العلاقة بين رفعة وأوتسن ولكن عندما اعلن عن مسابقة للبرلمان الكويتي، دعي ستة مكاتب ذات شهرة دولية، وبعد الجولة الأولى من تصفية المتسابقين، اختارت اللجنة تصميمي أوتسن ورفعة، وطُلبا منهما ما يرتيأنه من تعديل على التصميم، لكي تقوم اللجنة باختيار أحدهما. كان رئيس اللجنة المعمار الإنكليزي جون لزلي مارتن/ John Leslie Martin، وعندما مالت اللجنة نحو تصميم الإستشاري العراقي، وقف جون لزلي مارتن بشدة ضد إعطاء المسابقة لرفعة، قائلاً: (إن حصل مكتب الإستشاري العراقي على هذه المسابقة، وهو مكتب عراقي، فأين سيكون موقع المكاتب الإستشارية الأوربية والإنكليزية منها؟). وأصر ان تحسم المسابقة لصالح أوتسن. تألم رفعة من موقف لزلي مارتن، ولكن هي ليست المرة الأولى التي يتعّرض فيها مكتب الاستشاري العراقي ورفعة إلى التحيز من قبل المحكمين الأوروبيين والبريطانيين.
وقد أكُمل بناء البرلمان الكويتي عام 1982، ويذكر أوتسن ان البرلمان الكويتي يطل على البحر الذي "يغمره الضباب والضياء القوي خلف مدينة غير منتظمة" وأن زيارته إلى إيران عام 1959 و إلى مدينة إصفهان ألهمته تصميم البرلمان الكويتي. فالسقف يعطي انطباع مادة من القماش المتحرك، واعمدته أقرب إلى بناية الكرنك في مصر.
في عام 1966 بعد ان ترك العمل في استراليا، توقف في جزيرة مايوركا في اسبانيا، فاندهش بالجزيرة، وقرر ان يبني بيتاً يقضي فيه الصيف. وصمم الدار ولكنها اصبحت مزاراً من قبل السواح، فاضطر إلى تركه وبناء دار أخرى بعيدة ونائية عن السواح. ولم يعد إلى استرليا منذ عام 1966. وأصبح يقضي معظم وقته مع زوجته كان لز/ Can Liz في مايوركا، وقد توفي في كوبنهاكن، عام 2008 بالسكتة القلبية في نومه عن عمر ناهز التسعين عاماً. وبعد وفاته، قام برلمان جنوب ويلز الجديد في استراليا في تقديم التعازي، وتكريم حياة وأعمال يورغن أوتسن.