بغداد – تبارك عبد المجيد
لا تزال رائحة الكبريت الخانقة تهيمن على سماء بغداد، حيث تغطي السحب السوداء الملوثة الأفق منذ ساعات الفجر الأولى، مستمرة حتى ساعات الصباح المتأخرة، ما يجعل الهواء ثقيلًا وصعب التنفس. تلك الرائحة الحادة، التي تنبعث من العديد من المصادر الصناعية، باتت تشكل تهديدًا مباشرًا لصحة سكان العاصمة، الذين يعانون من تزايد حالات الاختناق، خاصة بين الأطفال وكبار السن، كما ان استنشاقها يسبب السرطان.
التحذيرات التي أطلقتها الجهات البيئية تركز على خطورة استنشاق هذه المواد لفترات طويلة، إذ أن أكاسيد الكبريت تُعتبر من الغازات السامة التي يمكن أن تؤدي إلى أمراض مزمنة مثل السرطان، خاصة في حال التعرض المستمر لها، فيما لا نجد أية حلول واقعية وآنية تلائم خطورة المشكلة.
هذه الانبعاثات السامة لا تقتصر فقط على إلحاق الأذى بالصحة الفردية، بل تتسبب أيضًا في تدهور البيئة بشكل عام، حيث تتفاعل مع الرطوبة في الجو لتشكل أمطارًا حمضية، تؤثر سلبًا على التربة والمياه والنباتات. وكلما طالت مدة هذه الظاهرة، كلما زادت المخاوف من تداعياتها على الحياة اليومية في العاصمة.
يرجع الخبير البيئي أحمد صالح نعمة انتشار الروائح الكريهة خلال فصل الشتاء إلى ظاهرة "الانقلاب الحراري، والتي تحدث بعد انتهاء الخريف ومع بداية الشتاء". وأوضح أن هذه الفترة تتميز بسكون الهواء، وهو ما يؤدي إلى احتباس الروائح والأبخرة في المناطق القريبة من سطح الأرض بسبب غياب تيارات الحمل التي ترفعها إلى الغلاف الجوي. وبالحديث أكثر عن الانقلاب الحراري أوضح نعمة لـ(المدى)، أنه "يحدث عندما تكون الطبقات العلوية من الغلاف الجوي أكثر دفئًا مقارنة بالهواء القريب من سطح الأرض، مما يمنع تصاعد الروائح والأبخرة الناتجة عن الأنشطة الصناعية والحكومية"، وأضاف أن أغلب الانبعاثات تأتي من محطات توليد الطاقة الكهربائية والمناطق الصناعية، بالإضافة إلى بعض الأنشطة الأهلية مثل معامل الطابوق، حيث يستخدم العراق نوعية وقود تحتوي على نسب عالية من الكبريت، ما يؤدي إلى تفاقم المشكلة.
وأكد نعمة، أن "هذه الظاهرة تصبح أكثر وضوحًا خلال الأجواء الباردة والسكون الشتوي، حيث تبقى الروائح عالقة في المناطق السكنية لعدم وجود حركة هواء كافية لتبديدها"، ودعا الجهات المعنية إلى اتخاذ تدابير للحد من استخدام الوقود ذي الجودة المتدنية وتحسين المعايير البيئية للحد من هذه الانبعاثات.
من وزارة البيئة، ذكر المتحدث باسمها، لؤي المختار أن "تلوث الهواء في مدينة بغداد ما زال يمثل تحديًا كبيرًا، وذلك بسبب عدم استدامة الإجراءات اللازمة من قبل المؤسسات الحكومية المختلفة، مثل أمانة بغداد ووزارة الكهرباء، بالإضافة إلى الجهات التنفيذية كوزارة الداخلية وقيادة عمليات بغداد"، وقال المختار: "لا تزال المخالفات مستمرة، خصوصًا في ساعات الليل، حيث رصدت فرقنا الرقابية صباح اليوم عمليات حرق غير شرعية للنفايات في عدة مواقع، من بينها معسكر الرشيد. كما أن هناك انبعاثات من أنشطة تعمل بدون موافقات بيئية".
وأشار المختار في حديث خص به (المدى)، إلى أن "الوزارة تمارس ضغطًا كبيرًا على الأنشطة الصناعية من القطاعين الحكومي والخاص، لافتًا إلى أن نوعية الهواء كانت رديئة صباحًا لكنها تحسنت بحلول الظهيرة لتصل إلى مستويات مقبولة".
وفيما يتعلق بتلوث المياه، أوضح المختار أن "الوزارة تعمل حاليًا على تحديث برنامج الرقابة على المصادر المائية عبر تجهيز فرقها بأجهزة محمولة حديثة للفحص السريع، بما في ذلك قياس نسب المعادن الثقيلة. وأضاف: "نحن بحاجة إلى جهود مشتركة من جميع الجهات، وخاصة دوائر المجاري في بغداد والمحافظات، لتنفيذ استراتيجية الحد من التلوث 2023-2030، التي تشمل إنشاء مشاريع معالجة مركزية ومحطات رفع وشبكات صرف صحي مستقلة".
وكشف المختار، أن "الوزارة ستطلق خلال الشهر المقبل مشروعًا دوليًا بتمويل قدره 18.5 مليون دولار من مرفق البيئة العالمي وصندوق التعافي والإعمار، وبإشراف البنك الدولي، للتصدي لمخاطر الملوثات العضوية الثابتة في عموم العراق، بالتعاون مع حكومة إقليم كردستان وعدد من الوزارات العراقية".
استنشاقها يسبب السرطان!
تُعد أكاسيد الكبريت واحدة من أخطر الغازات الملوثة للبيئة، لما تسببه من أضرار جسيمة على الصحة العامة والبيئة على حد سواء، وفقاً لقول أنعم ثابت خليل، معاون مدير عام دائرة التوعية والإعلام البيئي في وزارة البيئة. الذي أشار إلى أن هذه الغازات، وخاصة ثاني أكسيد الكبريت، تُعتبر سامة ومسرطنة، حيث تؤثر بشكل كبير على صحة الإنسان عند استنشاقها. وأضاف أن تفاعل هذه الغازات مع الرطوبة يؤدي إلى تكوين الأمطار الحمضية، التي تلحق أضرارًا فادحة بالبيئة وتزيد من تدهور جودة الهواء. بين خليل، أن "هذه الانبعاثات تنبعث في الأساس من مصادر معروفة مثل محطات توليد الطاقة، ومعامل الطابوق، والمصافي النفطية، بالإضافة إلى عمليات حرق الوقود الأحفوري". ولمواجهة هذا الخطر البيئي المتزايد، دعا خليل إلى تحسين التكنولوجيا المستخدمة في هذه القطاعات لتقليل الانبعاثات من المصدر، مع التركيز على استخدام الوقود النظيف. ولحماية المواطنين من الآثار السلبية لهذه الغازات، شدد خليل على أهمية اتباع إجراءات الوقاية الشخصية، مثل ارتداء الكمامات، خاصة عند التواجد بالقرب من مصادر التلوث. كما نصح بضرورة الابتعاد عن هذه المناطق الملوثة، مؤكدًا أن أكاسيد الكبريت تشكل تهديدًا صحيًا وبيئيًا سواء في حالتها الغازية أو عند تحولها إلى أمطار حمضية.
ودعا خليل إلى تكثيف الجهود المبذولة لمعالجة هذه المشكلة البيئية، من خلال تحسين أنظمة التصنيع، وتشجيع استخدام مصادر الطاقة النظيفة، إلى جانب نشر التوعية بين المواطنين حول مخاطر هذه الغازات وسبل الوقاية منها. وأكد أن الحلول الفعالة تتطلب تعاونًا جادًا بين مختلف الجهات للحد من هذه الانبعاثات والحفاظ على بيئة صحية وآمنة للجميع. وأغلقت وزارة الداخلية في تشرين الأول العام الماضي، 69 مشروعا مخالفا، وأجرت كشوفات موقعيه لـ 97 مشروعا، بالتعاون مع وزارة البيئة، بما في ذلك معامل الطابوق ومعامل صناعية متعددة النشاطات.