متابعة/ المدى
في ظل واقع اقتصادي مضطرب وأسواق تتأرجح بين القلق والترقب، عاد سعر صرف الدولار في السوق الموازي إلى تصدر المشهد، مُلقياً بظلاله الثقيلة على المواطنين والتجار على حد سواء.
الارتفاع المتزايد للدولار، الذي لامس مستويات تجاوزت حاجز الـ 152 ألفاً لكل 100 دولار، أثار موجة من المخاوف مع تحذيرات جدية من إمكانية تجاوزه حاجز الـ200 ألف دينار لكل 100 دولار، الأمر الذي قد يدخل السوق في مرحلة حرجة تهدد استقراره.
وأعلن البنك المركزي، الشهر الماضي، إغلاق منصة بيع الدولار مع نهاية السنة المالية (2024)، وهو إجراء يأتي ضمن التوجيهات المستمرة من قبل الخزانة الأميركية، حسب قوله.
وبالتزامن مع تزايد تحذيرات من البنك المركزي الأميركي وعقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة على بعض المصارف العراقية لضلوعها في أنشطة مشبوهة، أعلنت الحكومة العراقية، مطلع العام 2023، إطلاق منصة إلكترونية متخصصة في مراقبة حركة بيع الدولار وعمليات غسيل الأموال.
توقعات بقفزة جديدة في أسعار الصرف
وفي الوقت الذي يشعر فيه المواطنون بالقلق من تداعيات هذا الصعود الجنوني، يقف التجار حائرين أمام سوق مضطربة تتأرجح بين التوقعات والتكهنات، بينما ترتفع الأصوات المطالبة بتحركات عاجلة من قبل الجهات الحكومية والبنك المركزي لاحتواء الأزمة قبل فوات الأوان.
ويقول أحد أصحاب مكاتب الصيرفة في منطقة الدورة جنوبي العاصمة بغداد، إن "قطاع الصيرفة يواجه تحديات كبيرة نتيجة الضغوط المتزايدة التي تمارسها بعض الجهات الأمنية في إطار الرقابة على عمليات بيع الدولار".
ويضيف صاحب مكتب الصيرفة، أن "هذه الإجراءات تأتي في سياق جهود مكافحة التلاعب بأسعار الصرف أو تهريب العملة، لكنها تتسم بالتعقيد المفرط الذي ينعكس سلباً على سير العمل في السوق".
وفي العام 2023، قالت صحيفة وول ستريت جورنال إن "العملة العراقية فقدت نحو 10 بالمئة من قيمتها، بعد إجراءات غامضة بالنسبة للكثير، تتعلق بفرض قواعد امتثال على تعاملات البنك المركزي العراقي مع تجار العملة في ما يتعلق بالدولار الأميركي".
بينما يقول صاحب مكتب آخر في منطقة العامرية غربي العاصمة بغداد، إن "التدخلات المفرطة وغير المبررة أحياناً تسببت في إرباك حركة التداول داخل السوق المحلية"، مشيراً إلى أن "أغلب الصيرفات ملتزمين بالقوانين والتعليمات الرسمية، لكن هناك تضييقاً يعوق المعاملات اليومية الأمر الذي زاد من قضية صعوبة الوصول إلى الدولار محلياً والذي أسفر بدوره عن ارتفاع جديد في أسعار الصرف".
ووفقاً لحديث صاحب الصيرفة، فإن السوق يشهد تذبذباً كبيراً في أسعار الصرف خلال الأيام الأخيرة، في ظل شح واضح في المعروض من الدولار، مبيناً أن القيود الحالية على عمليات الصرف وندرة الدولار في الأسواق أدت إلى تصاعد حالة من عدم الاستقرار، وهو ما يهدد بتسجيل قفزات كبيرة في الأسعار خلال الأيام المقبلة إذا استمر الوضع الراهن ومن الممكن الوصول إلى 200 ألف دينار لكل مئة دولار.
كما يطالب صاحب الصيرفة الأهلية، الجهات المعنية إلى "إعادة النظر في الإجراءات المتبعة"، مشدداً على "ضرورة إيجاد توازن بين فرض الرقابة على عمليات الصرف وبين ضمان استمرارية العمل في السوق بطريقة تضمن تلبية احتياجات المواطنين والتجار دون تعقيدات إضافية".
وفي ختام حديثه، يرى صاحب الصيرفة أن "الحل يكمن في توفير سيولة كافية من الدولار وضمان آليات شفافة للتعامل مع الصيرفات بعيداً عن الضغوط التي قد تؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة".
وصادق مجلس الوزراء العراقي، (7 شباط 2023)، على قرار مجلس إدارة البنك المركزي العراقي بتعديل سعر صرف الدولار مقابل الدينار، بما يعادل 1300 دينار للدولار الواحد.
وكان سعر صرف الدينار العراقي عند 1470 ديناراً مقابل الدولار قبل أن يفرض مجلس الاحتياطي الاتحادي في نيويورك ضوابط أكثر صرامة على المعاملات الدولية بالدولار من جانب البنوك التجارية العراقية في ذاك الوقت.
المضاربات وراء أزمة الدولار
وتشير التقديرات غير الرسمية، إلى أن المنصة كانت تبيع يومياً ما يصل 280 مليون دولار، لكن المبلغ انخفض العام الماضي إلى ما دون 240 مليون دولار يومياً.
ويتحدث رشيد السعدي، وهو خبير اقتصادي، عن عدة محاور تتعلق بارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازي خلال الفترة الأخيرة، مشيراً إلى العوامل المؤثرة على السوق والسبل الكفيلة بتهدئته.
ويقول السعدي، إن "الارتفاع الحالي لسعر الدولار يعزى بشكل أساسي إلى عوامل العرض والطلب، خاصة في نهاية العام وبداية العام الجديد، كما أن وجود بعض العطل الرسمية يساهم في زيادة الضغط على السوق".
ويضيف السعدي، أن "المضاربات تلعب دوراً كبيراً في ارتفاع سعر الدولار، فالتلاعب في الأسعار من قبل بعض الجهات داخل السوق يسبب تقلبات تؤدي إلى زيادة الطلب على الدولار وارتفاع سعره بشكل ملحوظ"، معتقداً في نفس الوقت أن "السوق حالياً لن يشهد ارتفاعاً يصل إلى 200 ألف دينار لكل 100 دولار، على الأقل في المدى القريب".
ويشير السعدي إلى "تأثير التطورات السياسية الدولية المرتقبة، خصوصاً مع قرب تسلم الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلطة مجدداً خلال الشهر الحالي، وما قد يصاحب ذلك من تداعيات على المشهدين الدولي والإقليمي، بما في ذلك تأثيرات محتملة على العراق وإسرائيل".
وخلال حديثه، يقدم السعدي مجموعة من التوصيات العاجلة التي يمكن أن تساهم في تهدئة السوق وضمان استقراره:
أولاً: التقييد في صرف الرواتب.
ثانياً: تعزيز الجانب الإعلامي.
ثالثاً: إقرار الموازنة العامة (تمرير الجداول).
وسبق للمستشار المالي والاقتصادي لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح، قال إن "الفارق بين سعري الصرف في السوق مستقر بالأساس لأسباب تتعلق بالسيطرة على بيع الدولار النقدي من المنافذ القانونية للمسافرين وبشكل منظم ويخضع لقاعدة دقيقة من الامتثال والتدقيق، فضلاً عن قدرة المسافر في الحصول على المبالغ الأخرى المسموح بها من خلال بطاقات الدفع بأشكالها كافة، بمبالغ كافية ومريحة بسعر صرف 1320 دينارا لكل دولار".
وفي العام الماضي، قال وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، عن زياته إلى واشنطن، إن بلاده انخرطت في مناقشات بواشنطن مع ممثلين عن وزارة الخزانة الأميركية لمعالجة قضايا تقييد الدولار.
ووصف حسين، الاجتماعات بأنها "مفيدة للغاية"، مشيراً إلى أنها ستستمر، وتشمل المواضيع المقرر طرحها للمناقشات المقبلة إجراء مزيد من المحادثات بشأن قائمة البنوك العراقية الخاضعة للعقوبات الأميركية ووضع الأموال الإيرانية المتراكمة في العراق.
عوامل خارجية أطاحت بالدينار العراقي
ويعتمد العراق على الإيرادات النفطية التي تحتسب بالدولار الأميركي، وبالتالي فإن أي تغييرات في سياسة واشنطن الاقتصادية تجاه المنطقة قد تؤثر بشكل مباشر على احتياطاته النقدية وقدرته على استقرار سعر الصرف.
ويقول الخبير الاقتصادي دريد العنزي، إن "ارتفاع أسعار الدولار في العراق لا يعود إلى سبب واحد، بل هو نتاج عدة عوامل مترابطة، من أبرزها السياسات النقدية غير المستقرة التي اتبعتها الدولة في الأشهر الأخيرة".
ويضيف العنزي، أن "التصريحات الصادرة عن البنك المركزي العراقي بشأن إغلاق نافذة بيع العملة الأجنبية كانت بمثابة نقطة تحول سلبية أثرت بشدة على استقرار سوق الصرف، مما أدى إلى تداعيات واسعة على الاقتصاد العراقي"، مبيناً أن "إغلاق نافذة بيع العملة تسبب في زعزعة الثقة بالسوق، لأنه حرم السوق المحلية من مصدر مهم لتوفير الدولار".
هذا الإجراء، والكلام للعنزي، أدى إلى زيادة الطلب على الدولار في السوق السوداء، في وقت يعاني فيه السوق من قلة العرض، ما تسبب بارتفاع كبير ومستمر في سعر الصرف، مستطرداً بالقول "ومع استمرار هذه الفجوة، ارتفع السعر أكثر، مما أدى إلى إرباك الاقتصاد وتفاقم الأزمة بشكل عام".
ويتابع العنزي حديثه قائلاً إن هناك عوامل خارجية ساهمت بشكل كبير في الضغط على الدينار العراقي، أبرزها:
أولاً: انهيار العملات في دول الجوار حيث شهدت العملات الإيرانية (التومان)، السورية (الليرة)، واللبنانية (الليرة) انهيارات غير مسبوقة نتيجة الأزمات الاقتصادية والسياسية في تلك الدول، مما أثر بشكل مباشر على الاقتصاد العراقي، فيما أشار إلى أن انهيار هذه العملات جعل الدينار العراقي يبدو أقوى نسبياً مقارنة بها، لكنه في الوقت نفسه لم يحمِ الاقتصاد العراقي من التأثر بالتغيرات الإقليمية.
ثانياً: التوترات السياسية في المنطقة اذ أن تصاعد التصريحات السياسية بشأن الأحداث في المنطقة ساهم في زيادة القلق الاقتصادي داخل العراق، مما جعل الدينار الذي يعاني هشاشة بالفعل دون سند قوي يتأثر بسرعة بهذه المتغيرات.
كما تحدث العنزي، قائلاً إن "اعتماد العراق على دول محدودة مثل تركيا والإمارات في التجارة، في ظل استقرار نسبي لعملاتهما، جعل الاقتصاد العراقي يدفع تكلفة أعلى للاستيراد مقارنة بدول الجوار التي تعاني انهياراً في عملاتها"، مضيفاً أن "هذا التوجه أدى إلى خسارة فرصة كبيرة لتحقيق توازن تجاري مع دول مثل إيران وسوريا ولبنان، التي يمكن الاستيراد منها بمبالغ أقل، لو تمت الاستفادة من الفروقات السعرية".
وكان صندوق النقد الدولي، قد قال في وقت سابق من العام الماضي، إن "اختلالات النظام المالي في العراق تفاقمت بسبب التوسع الكبير في أسعار النفط"، مشيراً إلى أن "العراق بحاجة لتصحيح الأدوات المالية العامة واختزال في الوضع على المدى الطويل يفضل بناء احتياطيات مالية".
المصدر: وكالات