علي الياسري
منذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم من خلالها شريحة انثروبولوجية سينمائية تدرس الشخصيات بعناية، لتخرج منها بالمحصلة الدرامية محملة بكل تفاصيل الهامش الاجتماعي والمتن الطبقي دون ان ينسى الافق العاطفي ولا كوميديا الموقف. بيكر الذي ذهب لدراسة السينما بجامعة نيويورك وهو مُحَمَّل بأحلام صناعة افلام تُشبه انتاجات هوليوود الكبيرة مثل (داي هارد أو روبوكوب) قبل ان يكتشف في مانهاتن حيث عاش سنوات أربع أن العالم فيه الكثير بعيدًا عن عوالم السينما الامريكية التقليدية ينظر الى شخصيات افلامه بإيجابية فلا يُقصيها ولا يُغير من طباعها ولا يُحملها اكثر من طاقتها الدرامية. فهو يسعى الى رواية قصص انسانية يُظهِر من خلالها اهتمامه الدائم بالأشخاص والمواقف الحياتية الموجودة دائمًا غير ان الناس تختار التغاضي والتغافل عنها. مساعيه السينمائية دأبت على مطاردة احلام المهمشين والتعبير عن ثقافاتهم الفرعية والتي تعاني للوصول الى مطامحها وايجاد السُبل لتحقيق احلامها. تصويره لتعقيدات المدينة الحضرية لم تلغي قدرته على استنباط الجمال من الامكنة بصريًا. فهو يرى المكان متعلق بالشخوص بالدرجة الاولى، ولذلك لن يترك صورة فيلمه تنزلق الى الرمادي كما كانت تفعل افلام الواقعية الاجتماعية التي تأثر بها كثيرًا، بل تصبح الالوان هي المعيار لرؤية الجمال الداخلي للشخصيات حتى وإن بدت حكاياتها كئيبة او ترزح ايامها تحت ضغط المشقة. وربما هذا يفسر لنا كمشاهدين لماذا نرى في افلام المخرجين المتميزين دائمًا لقطات لمناظر طبيعية داخل المدينة حتى لو كانت حديقة صغيرة، لأنها تسمح لنا بتقدير روح الجمال الساكنة فيها ولمس ذلك منعكسًا على شخوص الفيلم.
في سينما شون بيكر يمكن ان نرصد بوضوح سعيه لتصوير العمق الانساني للمجتمعات الهامشية. تنمو فيها ضمن حافات الكادر نفوس تزدهي بالفتنة والوسامة فتنقل صورته من خلال المرونة اللونية بهجتها بالتحدي لمناطحة العيش في المستوى الاجتماعي الاعلى رغم تعقيدات الظروف وتغيرها على مسار السرد، وهذا ما نراه في شخصية (أنورا) التي تُظهر قوة تأثير بالغة تأخذ فيها دوما زمام المبادرة نحو الاحلام الخاصة بها كشخص عامل، وهو ما يمثل مفارقة كونه يحفز بمزيج العاطفة وغواية الجسد الخبير بالمتعة حتى المرفهين المولودين وفي افواههم ملعقة من ذهب على الحلم والتحرك نحوه بجرأة، كما في علاقتها مع فانيا الذي يقرر الزواج منها لتحقيق رغبته في البقاء بأمريكا وعدم العودة لروسيا.
واحدة من ميزات شون بيكر كصانع سينمائي انه يظل متوازنًا في تعاطفه مع شخصيات افلامه على اختلاف طبائعهم ومواقفهم، فلا ينحاز بقدر ما يعرض ما يعطي للتجربة السينمائية القوة والتأثير من خلال دعم الدراما باستخدام لغة بصرية ديناميكية مباشرة تقترب من الطابع الوثائقي لكنها تعتمد الموازنة بين الاضاءة الطبيعية وقوة النيون، تستقطبها كاميرا محمولة بإيقاع سريع تسعى لعكس الغموض المتراكم حول مسار القادم وغير المتوقع كما حدث لأني في (أنورا) حيث الوجود البارز للجمال الخام والحسي المترافق مع كواليس الواقع القاسية والمحملة بكل المشاكل الاجتماعية لطبقة تكافح من اجل البقاء. يمنح المخرج بيكر مشاهده رؤية مباشرة اشبه بالتسجيلية لنسق العيش في مسعى لجذبه نحو عالم الشخصيات بما يتيح له الاندماج مع وقائعهم اليومية. امر يعمل لاحقًا على تعزيز الرؤية الواقعية والقطع السينمائي العمودي الكاشف للتفاوت الطبقي الاجتماعي. شيء شاهدناه في افلامه السابقة مثل (تانجيرين ومشروع فلوريدا) لكنه منذ فيلم (الصاروخ الاحمر) السابق لأنورا هيأ الارضية السينمائية التي تستكشف دراميًا معضلات الحياة المهملة لعاملي الجنس وطموحاتهم وأمانيهم ممتزجة بكوميديا سوداء مثيرة ومحفزة بغموضها حيث اختار للقصة بيئة حضرية بسيطة في بلدة صغيرة على هامش تكساس يعود اليها نجم افلام اباحية. مع (أنورا) يتجرأ اخيرًا على تحقيق الافكار التي راودته طيلة عقدين من الزمن فينتقل الى نيويورك وملاهيها مُتخذًا من المدن الكبرى مسرحًا لكاميراه المتجولة بين شوارع الطبقة العاملة في بروكلين قلب المدينة النابض وحتى قصور الاوليغارك الروس في برايتون بيتش. يقود المخرج مشاهد فيلمه من خلال سلاسل مشهدية طويلة تتحرك بين عوالم الشخصيات مُلتقطة شظايا الذاكرة المُنتشية بفعل الترف الباذخ والواقع الحسي والمسعى المحموم للتلذذ للمتنعمين بثراء فاحش وبين دنيا العاملات بالترفيه الجسدي والجنسي الباحثات عن الاستقرار المادي والاجتماعي والعاطفي حيث الارواح المختبئة خلف القوام المثير.
(أنورا) فيلم تتحاور فيه الهشاشة والقسوة تحت قفازات المخمل. ورغم ان بيكر لا يسعى الى أدلجة سينماه الا ان رؤى افلامه تقوم على موضوعة الاستغلال والعلاقات غير المتكافئة وإن كان بمظهر حداثي استهلاكي براق ينسجم مع معطيات العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، لذلك نرى الصراع الدرامي يتحرك من اطاره الاقتصادي الطبقي الكلاسيكي الى وجهات اخلاقية بعد ان هيمنة الرأسمالية الحديثة على تفاصيل الحياة مولدة نزعات انسانية تبحث عن الادمية في ثنايا التوحش السلوكي للثروة، وعن العدالة بين اروقة الاستبداد الاجتماعي، وعن الاحترام لدى من لا يفقهون سوى لغة العنف والتعالي. في واقعية المخرج الامريكي تصبح العاطفة دمية على مسرح العرائس تُجَّمل المشهد المبني على مصالح مالية وطموحات طبقية لا تلبث ان تنكشف كونها ليست اكثر من سلعة تزدريها عبثية الاثرياء.
كانت الاداءات التمثيلية حجر زاوية رئيسي في الفيلم حيث سمحت للأفكار بالبروز والتبلور. فتجسيد ميكي ماديسون الرائع لشخصية (آني) كان ملهمًا وبراقًا يضع الكثير من الطاقة والوضوح على النوايا والاهداف لرسم طبيعة الشخصية كراقصة تعري ومرافقة جنسية احيانًا. أنورا نموذج مثالي لكيفية بناء بيكر لشخصياته، فهي مع كل التعقيدات والتناقضات الحياتية والمعاشية التي تحفل بها وقائعها اليومية غير انها تُظهر عنفوانها مرتكزة على لغة عيون وجسد تعكس العزم الثابت والمرونة الواعية للدور ما يجعلها شخصية راسخة لا تنسى. وهكذا وما بين الثقة المرحة والهشاشة المؤلمة تقدم ماديسون اداءً آسرًا يلتقط سمات انورا الكارزمية واعتدادها بنفسها دون ان يتجاهل نقاط ضعفها التي تتبلور خصوصا في الربع الاخير من الفيلم بلا ميلودراما زائدة او محاولات سخيفة لاستدرار التعاطف.
رسم بيكر افاق فيلمه على صورة امرأة شابة قررت خوض غمار تيارات الامواج العاتية لمحيط اجتماعي تتقلب فيه المشاعر على افكار الثروة والحقائق الصارمة للحياة الحديثة لتسقط تحت وطأة النزعة الاستهلاكية التي سلعت الانسان ووضعته كرقم في محفظة الاثرياء الذين يسمحون لأنفسهم بتفكيك اي ارتباط غير محسوب يخرج من سيطرة المتعة والمجون الى واقع حقيقي، وهو ما نجده في شخصية ايفان العابث النزق ابن العائلة الاوليغارشية الروسية والذي يجسده الممثل (مارك ايدليشتين) بمهارة حيث نرى من خلاله ووالديه ومساعديهم نظرة مخيفة يهذبها بيكر دون ان تنزوي بطاقة الكوميديا الساخرة من عالم الثروة والسلطة البارد، ليتجلى لنا من كل ذلك ان خلف نافذة النشوة البراقة والغزل السريع والترف الباذخ الداخل من خلالها اشخاص من طبقات اخرى خصوصًا العاملة والمهمشة تقع هوة شاسعة لن تُلغي النظرة الدونية الفاصلة بين العالمين. فالأمر لا يتعلق بالطبقية كمعيار لنسيج العلاقات بل بالقوة العاتية التي ترى من المال هو الهرم الذي يضعها فوق الجميع وهو ما يلغي خصوصية الاخرين وحريتهم في اتخاذ القرارات المصيرية كالزواج المستعجل بين أنورا وفانيا والمعقود مثل رهان عابث في لاس فيغاس. ان سعي أنورا لتحقيق انتصارها في استمرارية الزواج يضعنا كمشاهدين في تمعن دقيق لضغوط التحديات الواقعة على عاتق المهمشين وربما هذا يفسر لنا موقف شخصية ايغور التي اداها الممثل (يوري بوريسوف) حين وجد بشخصية أنورا المتحدية استلهامًا شعوريًا للتمرد المخبوء بداخله قبل ان يتحول هذا التعاطف الى احساس بالمودة تجاهها.
(أنورا) فيلم يتحرك من افتتاح مُبتهج الى نهاية تعيد الحسابات والتساؤلات بعد ان انتقل الشعور من الحس الى العاطفة.
فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
نشر في: 9 يناير, 2025: 12:04 ص