لطفية الدليمي
توفّي (جيمي كارتر) بعد أن اجتاز عتبة القرن الكامل بشهريْن؛ وبهذا يكون أطولَ الرؤساء الأمريكيين عمراً. ليس في هذا العمر الطويل إمتيازٌ لرئيس أو غير رئيس من البشر. ربّما يكون العمر الطويل إجتماعاً صدفوياً لموروث جيني مع نمط حياة وأخلاقيات خاصّة. إذا ما شئنا أن نُنسّب امتيازاً حقيقياً لكارتر فهو كونه الرئيس الأمريكي الذي لم يكرهْهُ أحدٌ. إنّه امتيازٌ حقيقي أن تكون رئيساً أمريكياً ولا يكرهك أحد؛ أمّا أن تكون رئيساً أمريكياً وتتوقّع أن يحبّك أحدٌ فتلك فنتازيا ساذجة لا يمكن إحتمالها إلا كحلمٍ بعيد المنال.
ثقيلٌ على روحي أن أكتب عن خواص طيّبة في رئيس أمريكي؛ لكنّني أقاربُ هنا إشكالية ثقافية وتأسيسية للشخصية البشرية حتى لو تجسّدت في رئيس أمريكي بات من الأعراف السائدة عالمياً أن لا يحبّه أحد. يوصفُ كارتر على صعيد عالمي بأنّه (الرئيس الأكثر احتراماً بين الرؤساء الأمريكيين)، وبالطبع لم تنشأ هذه القناعة من فراغ وإنّما لها مصاديق عديدة. هناك كثيرون بيننا لن يقتنعوا بهذا الرأي، وسيلعنون الرجل متى ما ذُكِر إسمُهُ من غير تدقيق أو نظر نزيه في الوقائع.
الأمريكي يفكّرُ ويحتسبُ الأمور طبقاً لثقل جيبه ووضعه الإقتصادي، وهذا ليس عيباً في الحسابات العملية. لو تفحّصنا عهد رئاسة كارتر من هذا الجانب لكان من أسوأ العهود الأمريكية لارتفاع نسب التضخّم والغلاء التي ترافقت مع ركود إقتصادي جامح. لكن في جانب آخر أوقف كارتر برامج التسلّح الأمريكية باهضة التكاليف، وتوقّفت في عهده شهية الغزوات الأمريكية والمغامرات العسكرية حتّى بات يوصفُ بِـ (الرئيس الضعيف). لم يخلُ الأمر من مناورات سياسية خبيثة من جانب الجمهوريين لتلطيخ صورته ومبادراته، وبلغ الأمرُ بالرئيس الجديد بعده (ريغان) بأن أمر فور دخوله البيت الأبيض بإزالة ألواح الطاقة الشمسية التي نصبها كارتر على سطح البيت الابيض كإشارة لدعمه أشكال الطاقة النظيفة. أراد ريغان إرسال رسالة واضحة لكبريات شركات النفط أنّه معهم يساندهم في تعظيم أرباحهم مهما كانت العواقب.
قلتُ أنّ شخصية كارتر تستحقُّ الدراسة المعمّقة من الجوانب الثقافية والإنسانية وبخاصة عند مقارنتها مع الشخصية المنمّطة للرئيس الأمريكي. أوّلُ جانب هو التعليم. معظمُ الرؤساء الأمريكيين لم ينالوا تعليماً عالياً خارج نطاق القانون، وهم في هذا يذكّرونني بالحوار الرائع لنجيب محفوظ الذي أداره في روايته (بين القصرين) ضمن ثلاثيته الشهيرة حيث يسعى (كمال) لدراسة الفلسفة في كلية المعلّمين بينما يريده أبوه (سي السيّد) أن يدرس الحقوق ليصبح باشا وزعيماً سياسياً على خطى سعد زغلول!!. لا أصدّقُ أنّ (جورج بوش) مثلاً -وهو خريج قانون- كان طالباً مجتهداً يستحقّ نيل شهادة جامعة ييل النخبوية. معظم الرؤساء الأمريكيين كانوا سليلي عوائل ثرية، وقد اتخذوا من دراسة القانون وسيلة فقط لخوض مضامير السياسة. قبيل احتلال العراق وقف (بوش الابن) يمتدحُ زميله في مناصرة الاحتلال (توني بلير) رئيس الوزراء البريطاني، ووصفه بأنّه مفكّر ستراتيجي!!. ضحكتُ كثيراً لذلك الوصف إذ يجري على لسان بوش الإبن. لعلّه حسب نفسه كبير المفكّرين الستراتيجيين عندما وضع العراق ضمن ثلاثي (محور الشر) الذي صاغه له من هو مكلّفٌ بكتابة خطاباته. في المقابل كان كارتر استثناءً صارخاً؛ فقد نال شهادته الجامعية في الهندسة النووية التي كانت فرعاً جديداً نشأ للتو عقب الحرب العالمية الثانية، ثمّ عمل بعد الدراسة الجامعية مهندساً نووياً في غواصات البحرية الأمريكية. ربما سيحاجج البعضُ أنّ منصب الرئيس الأمريكي يتطلبُ بالضرورة بعض (الشقاوة)، ولن يفي بمتطلباته عقلٌ متعمق في التفاصيل العلمية والتقنية التي تفترض مصداقية وضميراً بعكس دراسة القانون التي تمكّنُ المرء من التمرّس بأحابيل المناكفات السياسية. قد يكون هذا بعض واقع الحال الذي لا يمكن نكرانه؛ لكنّ كارتر نقض تلك القناعة السائدة وإن لم يرتقِ إلى مرتبة الرئيس القوي للولايات المتّحدة الأمريكية.
الأمر الثاني هو الدين. الحياة الأمريكية تبدو مكرّسة للسياقات العلمانية، وهذا صحيح تماماً؛ غير أنّ الجذور الدينية فيها راسخة وتتمثّلُ في عبارة (مدينة على الجبل) المستلّة من شاهدة إنجيلية، وهي رمز استعاري على الدور العالمي لأمريكا كأرض للحرية والفرص والأخلاق، أو هكذا أرادها آباؤها المؤسّسون في الأقلّ، وهناك الكثير من الكتب المهمّة التي تناولت الجذور الدينية في التأسيس الأمريكي. كارتر كان متديّناً على النمط البيوريتاني Puritanical الذي يؤكّدُ الأخلاقيات من غير تسييس لها أو جرّها لمديات دنيوية بعيدة كما يفعل الأصوليون الإنجيليون الذين صاروا علامة مميزة للحزب الجمهوري. هؤلاء الأصوليون يعدّون أنفسهم بمثابة (الفرقة الناجية) التي ستخلّصُ أمريكا من شرور الموبقات الكثيرة التي حلّت عليها بفعل سياسات جديدة. الأمر لا يختلف كثيراً عمّا نعانيه في عالمنا العربي من تغوّل الأصولية المذهبية والفقهية على حساب الأخلاق النقية المنزّهة من التوظيف السياسي والإنتفاع المالي. من معالم هذه الأخلاق النقية لدى كارتر أنّك تراه في كلّ مكان ينذرُ بمشكلة عالمية فيبادر لإطفائها. ثمّ أنّه كان من أوائل من عضّدوا الحقّ الفلسطيني وكشفوا الظلم والعسف اللذين وقعا على الفلسطينيين. كان قاسياً وصارماً مع صقور الحكومة الإسرائيلية ووصفهم بالعنصرية من غير تعبيرات مراوغة.
الأمر الثالث هو العمل. قضى كارتر عمره عاملاً حقيقياً لم يتعكّز على أموال عائلته التي ما كانت أصلاً من العوائل الغنية. بعد إنتهاء عمله في البحرية الأمريكية ظلّ يدير مزارع الفستق السوداني الخاصة به. كان يعمل بيديه، وشواهد كثيرة تؤكّدُ هذا. أذكرُ في إعصار كاترينا الذي ضرب ولاية لويزيانا الجنوبية في عهد بوش الإبن راح كارتر يعمل في إعادة تشييد الهياكل الخشبية للمنازل المدمّرة. كان يبدو نجّاراً حقيقياً ولم يكن مُرائياً من جماعة (صوّرْني وأنا لا أعرف!!). نشأت لديّ قناعة مع السنوات أنّ كلّ شخصٍ يعملُ في قطاعٍ ريعي (مثل النفط و المعادن) أو المضاربات السوقية سيكون جشعاً بعيداً عن موارد الأخلاقيات الرفيعة. العمل في الزراعة يرقّقُ القلب ويجعل المرء قريباً من تلك الروح الكونية الخالدة، فضلاً عن تعليمه روح التواضع والتناغم مع الطبيعة. لعلنا لو عملنا على تنمية الزراعة في عراقنا المجروح لكنّا حافظنا على رهافة روح العراقيين وتنقيتها من عناصر القسوة والإنتقام والابتعاد عن الكياسة. الزراعة تخلق الثروة الحقيقية؛ أما النفط فيعلّمُ التقاتل والتنازع على موارد الثروة الجاهزة.
الأمر الرابع هو الكتابة والتأليف. كارتر كاتب ممتاز لم يكتف بتكليف كاتب شبح ليكتب له مذكراته عن سنوات رئاسته في المكتب البيضاوي ليبيعها لدار نشر لقاء ملايين من الدولارات. كتب كارتر في مجالات عدّة، ولعلّ أفضل وصف له هو ذلك الذي كتبه أحد مراجعي كتابه (فلسطين: سلام بدلاً من فصل عنصري) إذ قال أنّ كارتر يصف أزقة القدس وكأنّه أحد تلامذة المسيح. كان حقاً دقيقاً ومتمرّساً في التفاصيل، وهو ما يعكسُ رغبته وحرصه ودقّته في العمل الذي تطوّع لإنجازه. كان يختلف كثيراً في كتاباته عن أوباما الغاطس في فنون الحذلقة واللعب والمراوغة السياسية.
لن نستطيع يوماً معرفة دواخل المرء. هل ندم كارتر أنّه صار رئيساً أمريكياً؟ ربما؛ لكنّي أوقنُ أنّ أولادنا وأحفادنا سيتساءلون كثيراً في سنوات قادمة هل أنّ كارتر شخصية حقيقية لرئيس أمريكي أم هو صنيعة الخيال؟ سيتساءلون إذا أتيحت لهم النجاة ولم يجرّهم رئيس أمريكي قادم متغطرس إلى حافات نهاية الحياة على الأرض.