TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > المسببات الاقتصادية والثقافية والسياسية للعنف في العراق وآفاق الديمقراطية والإصلاح

المسببات الاقتصادية والثقافية والسياسية للعنف في العراق وآفاق الديمقراطية والإصلاح

نشر في: 10 ديسمبر, 2012: 08:00 م

(1 - 2)

بدعوة  من اللجنة التحضيرية لهيئة الدفاع عن أتباع المذاهب والديانات زرت السليمانية بين ٢٠ و٢٤ تشرين الثاني الماضي لألتقي بعدد كبير من مثقفي وناشطي العراق من الذين وفدوا إلى مؤتمر الدفاع عن أصحاب الديانات والمذاهب. البعض منهم تعرض للظلم والتهجير من قبل بعض الغلاة رغم ما نسمعه عن ثقافة التسامح الديني والمذهبي التي سادت في بلاد الرافدين منذ آلاف السنين، هذا التسامح الذي أنتج فسيفساء التعددية في العراق التي نأمل أن يعود لها بهاؤها.

وبعد الاستماع إلى عروض قيمة من بعض المحاضرين كالدكتور رشيد الخيون والسيدة نرمين عثمان والدكتور جعفر هادي حسن وكذلك إلى مداخلات المعقبين، برزت أسئلة في الأذهان لم يتم التطرق لها بالكفاية من التأكيد وهي:
لماذا تفاقم العنف بعد ٢٠٠٣ ضد أصحاب الديانات والمذاهب الصغيرة كما تفاقم أيضا في ما بين الطوائف الأكبر؟
وهل يمكن أن يعزى العنف كله إلى مجرد تفاقم دعوات التمييز والتعصب الديني والمذهبي  التي لقيت آذانا صاغية بعد أن سادت في العقود الماضية ثقافات متسامحة محورها الدين لله والوطن للجميع؟
ولماذا تلقّى البعض هذه الدعوات  بآذان صاغية وهي التي استخدمت تراث الغلو المذهبي و فتاوى
التكفير التي تدعي الاستناد إلى نصوص دينية أو ثقافية تعصبية؟
ولماذا وجدت هذه الدعوات المتعصبة مذهبيا ودينيا رواجا بعد انهيار النظام الشمولي   ؟
تفاعلات العوامل الاقتصادية والسوسيولوجية والثقافية وأثرها في ما جرى من عنف -  إن ما جرى في العراق من عنف مخل بالتوازنات الاجتماعية التي قامت على التعايش المذهبي والتسامح الديني، وخصوصا بعد العام ٢٠٠٣، لم يكن ليحدث بهذه الحدة لولا عوامل مهمة ،منها غياب المشروع الوطني الشامل لصالح المشاريع الطائفية والقومية من جهة، وأيضاً لوجود أزمة  اقتصادية عميقة من الجهة الأخرى. وقد أفرزت هذه الأخيرة الحظر الدولي الطويل الذي انهارت فيه مستويات المعيشة والتعليم. وتضاف إلى آثار الأزمة والحظر تبعات الحروب التي أفضت إلى الاحتلال الذي غيّر النظام السياسي الذي أفرط بمركزيته وقمعه. وبعد الاحتلال، قامت الدولة بإجراءات غيرت السياسات الاقتصادية والبنى السياسية والعسكرية والأمنية ،الأمر الذي أربك التوازنات الاجتماعية الهشة كما فاقم من معدلات البطالة.
أدت التغييرات في البنى والسياسات الاقتصادية تلك إلى تسريح أعداد كبيرة من العاملين بأجهزة الدولة، إلا أن الإجراءات المستحدثة لم تبرمج للتحول من النشاط  القائم سابقا على هيمنة الأجهزة الأمنية وتدخل الدولة في معظم الأمور الحياتية والى اقتصاد بديل يمتص من ألقي بهم إلى سوح البطالة كما يبرمج لامتصاص الشباب الوافد هو الآخر إلى سوق العمل. وقد قادت هذه الاختلالات ، التي كانت فاضحة دون شك ، إلى تفاقم معدلات البطالة ،فحسبما ورد من إحصائيات السنوات  الأولى بعد سقوط النظام السابق، فقد تراوح المعدل العام للبطالة  بين ٣٥ إلى ٤٠ بالمئة. ولما كانت تجارب أسواق العمل في بلدان كثيرة تشير إلى أن معدلات بطالة الشباب تكون عادة حوالي ضعف المعدل الوسطي العام للبطالة، فان هذه النتيجة لتشير إلى أن بطالة الشباب العراقي زادت على ٧٠  بالمئة ، وهذا مؤشر خطير يدل على  انسداد آفاق العيش وعلى إفقار القطاعات الشابة التي استجاب بعضها إلى دعوات التعصب المذهبي المقرون بالعنف وبعض المال.
وكما نعرف من سياق العنصرية والتمذهب في بلاد أخرى، ومنها بلاد الغرب الرأسمالي ، فان التعايش  السلمي الاجتماعي كان أعلى في الحقب التي حققت فيها اقتصادات تلك الدول نموا اقتصاديا سريعا رفع من مستويات المعيشة والتشغيل، إلا أن العنصرية والتعصب الديني والمذهبي هناك كانا يطلان  بقوة في فترات الكساد الاقتصادي التي تفاقمت فيها معدلات البطالة. وعند تفاقم البطالة والفقر،  كانت الدعوات العنصرية والمتعصبة  تجد أذانا صاغية  تنعكس في محاولات إلقاء اللوم على الأقليات لهذه البطالة، الأمر الذي كان يسهل اضطهاد البعض منهم حتى في تلك المجتمعات ذات البنى القانونية والدستورية الأكثر رصانة مما أتيح لبلادنا بعد ٢٠٠٣.
 وبالنسبة للعراق، فقد أوضح مؤتمرون عدة بأن الهجرة التي اقترنت بالعنف منذ ٢٠٠٣ قد أخلت بالتوازنات السكانية،كما أوضحوا بان مكونات عراقية أصيلة منها المسيحيون والصابئة المندائيون قد نالها نصيب غير قليل من آثار العنف المشار إليه حتى صار من الصعب مثلا للصابئة الحفاظ على معظم وجودهم السكاني وعلى لغتهم الآرامية الشرقية في ظل ذلك العصف الاجتماعي المهدد لوجودهم، وهو يكاد يكون أقدم وجود لمذهب ديني على أرض العراق.
أما المسيحيون، فقد شجع انحسار وجودهم مناخ القلق نتيجة العنف الدائر بالبلاد والتمييز ببعض وظائف الدولة، علاوة على الهجمات الإرهابية التي طالت كنائسهم في الموصل والكرادة الشرقية ببغداد وغيرها مما سرّع الهجرة التي يسّرتها دول غربية ليفقد العراق بها مساهمات تخصصية تميز بها وجود المسيحيين.
لقد شهد العراق نشوء الأديان التوحيدية الذي يدل عليه الوجود المتقدم زمنيا للطائفة المندائية
التي كثيرا ما احتمى أتباعها في  الجنوب والأهوار لممارسة طقوسهم الدينية التي تعتمد التعميد
وتمارس تعاليم  وادعة لم تحمهم من أذى الغزوات والحروب والاضطراب الاجتماعي.
وفي العقود القليلة الماضية ، لم يعد الهور حاميا للمجتمع الصابئي المتحضر ثقافيا والمسالم ،فالهجرة إلى المدن قابلها انخراط اقتصادي في  مجتمعات الحواضر التي أفرزت تعليما وتمايزا طبقيا رافقه نمو  حرفي جعل بعض أبناء هذه الطائفة الضاربة في الجذور التاريخية لوطننا معرّضين  للأذى والابتزاز في مهنهم المختلفة ، ومنها الطب والهندسة والصياغة ، بل حتى في دورهم التي يمتلكونها، مما أجبر كثيرين منهم على الهجرة لتستنزف مهاجرهم مهارات  مهمة.
هناك بالطبع التركمان والشبك والإيزيديون والكاكائيون والكرد الفيلية بقصص معاناتهم المختلفة . ورغم الاعتراف القانوني والدستوري بالتعددية  وبحقوق المكونات، إلا أن واقع الحال يشير إلى بقاء التعصب المذهبي  كما حالة التمييز التراتبي اجتماعيا، ذلك التمييز المجبول بقيم الثقافات والأيديولوجيات  السائدة التي تلاقحت مع التخلف المعرفي في المجتمعات المحلية المختلفة لتنتج تراتبات اجتماعية واقتصادية متمايزة رغم كون الكل مواطنين.
 إن واقع الممارسات الفعلية يشير إلى مواطنيات من درجات مختلفة في توقعاتها وحقوقها ضمن  سلم التراتب الاجتماعي لكل منطقة أو إقليم وضمن الحقب المختلفة من تاريخنا الذي ضمخته الآلام. خلاصة الأمر ، أن الموروث السائد ثقافيا كثيرا ما أعطى  حقوقا مادية ومعنوية أكبر للمنتمين إلى الفئات الاجتماعية الأكبر عددا أو الأقوى سياسيا، فمن تؤول إليه السلطة في بلاد النفط، تؤول إليه أيضا مقاليد السيطرة على أهم منابع المال.
وفي دولتنا المعتمدة في تمويل موازناتها العامة على الريع النفطي ، كثيرا ما يوجه الفائض الاقتصادي لأغراض لا تحفز نمو الأقاليم الجغرافية المختلفة بما ينسجم وحقوقها بالتطور الاقتصادي والاجتماعي وخصوصا مع سيادة آليات التفاوض مع السلطة في المركز لتخصيص الموارد الاقتصادية. وفي ظل هذه البنى المؤسسية، كان للتخبط الواضح بالسياسات الاقتصادية بعد ٢٠٠٣ دور اتسم بانعدام الرؤى المستقبلية طويلة الأمد، الأمر الذي كرس التباين في تطور حقوق المواطنين ضمن المناطق الجغرافية المختلفة ، كما انعكس بضعف  تلبية حقوق الفئات الاجتماعية الأصغر والأضعف، والكثير منها من سكان وادي الرافدين الأعمق جذورا.
منذ الخمسينات، وعدا مشاريع السدود والطرق لمجلس الإعمار،فقد وجهت موارد البلاد أساسا لخدمة المترو بول الحضري في المدن الكبرى أو للأطراف التي ينتمي إليها أركان السلطة المهيمنة ضمن كل حقبة سياسية.
في حين بقيت مناطق طرفية أخرى مهمشة ومتخلفة اقتصاديا واجتماعيا. وأدى التباين في سياق التطورين الاقتصادي والاجتماعي بين المدينة والريف إلى تسارع وتائر الهجرة إلى الحواضر ليتعمق الترييف في المدن. وأسهم هذا الترييف الواضح في سيادة أجواء الاغتراب الاجتماعي والثقافي في أفياء المدن المتوسعة وذلك نتيجة ضعف قدرات المهاجرين من الأرياف المختلفة  على الاندماج الكافي في المجتمعات الحضرية . ويعزى ذلك أيضا إلى سرعة النمو السكاني الحضري  ،إضافة إلى هيمنة المعوقات الثقافية والطبقية والحواجز المذهبية .
وطالما كان الاقتصاد مزدهرا، فقد سادت في الحواضر الأكبر أنواع لا بأس بها من التعايش الاجتماعي والإغناء المعرفي والثقافي الذي كان قادرا على استيعاب المهاجرين. أما في حقب النكوص الاقتصادي، كما حدث منذ حروب الثمانينات وما تلاها من نكبات أطاحت بمجهودات أكثر من جيل في التنمية بإمكانات توفيرها فرص العمل والثقافة العصرية، فقد ازداد فيها الاحتقان الاجتماعي والمذهبي . وكان للصراع على الموارد وفرص العمل المجزي دوره في تأجيج الاحتقانات المشار إليها ،إذ أدى التضخم المنفلت  إبان سنوات الحروب والحصار إلى انهيار مستويات المعيشة مما أسهم بتفتيت لحمة التضامن والتعاضد المجتمعيين وأسهم بتعزيز التوجهات نحو قبول مبدأ الصراع الدامي من أجل البقاء. ولقد تمخض هذا الانهيار بمستويات المعيشة أيضا في  انهيار قدرات النظام المباد على السيطرة لينهار نظامه المركزي في القمع على أيدي القوات التي غزت البلاد.
لقد استمر الاحتلال الأجنبي رسميا حتى نهاية ٢٠١١ لتبقى في البلاد بعد ذاك أكبر  سفارة أمريكية في العالم  لها .عسكريون ورجال دبلوماسية ومخابرات ومتعاقدون يتمتعون بالحصانة يزيد عدد  أفرادها على ١٦٠٠٠، منهم حوالي ٢٠٠٠ دبلوماسي . وهذان الرقمان يوهنان التصريحات الرسمية  عن عودة ناجزة  لاستقلال البلد .  وبالطبع ، لم يكن النفوذ الأجنبي الكبير بديلا عن عرى التواؤم الاجتماعي التي ضعفت خلال السنوات القاسية لمسلسل الحروب والحصار والقمع. وبذا، فقد تيسرت سبل إطلاق عقال التعصب المذهبي والعرقي لتسود ثقافات العنف والأفكار المتخلفة التي استخدمت للتجاوز على حقوق الآخرين ولتبرير الاعتداءات على الأبرياء كما على المجتمعات والطوائف المذهبية  الأضعف. ولعل جزءا غير قليل مما تحقق من تجاوزات وجرائم بعد ٢٠٠٣ يعزى ، مع تفاقم البطالة والفساد، إلى الطمع بأملاك ودور سكن ضحايا حملات الرعب والتخويف والعنف والتهجير إثر ضعف قدرات الردع القضائي والوهن الذي أصاب التضامن الاجتماعي الذي كان متعززاً بالأخلاقيات السلوكية التعاضدية التي عرفها ومارسها العراقيون في الريف والمدن عبر عقود منصرمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: في محبة فيروز

العمود الثامن: ليس حكماً .. بل مسرحية كوميدية

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

العمودالثامن: الحرب على الكفاءة

 علي حسين منذ ان ظهرت الديمقراطية التوافقية في بلاد الرافدين ،والمواطنونالعراقيون يبحثون عن مسؤول مختلف يمنحونه ثقتهم، وهم مطمئنون ، رغم أنهم يدركون أنّ معظم السياسيين ومعهم المسؤولين يتعاملون مع المناصب على أنها...
علي حسين

قناطر: ليلُ العشَّار الطويل

طالب عبد العزيز يحلَّ الليلُ باكراً في أزقّة العشَّار، أزقته القصيرة والضيقة، التي تلتفُّ عليه من حدود شبه جزيرة الداكير الى ساحة أم البروم، يحدث ذلك منذ سنوات الحرب مع إيران، يوم كانت القذائفُ...
طالب عبد العزيز

محاسبة نتنياهو وغالانت أمام محكمة الجنايات الدولية اختبار لمصداقية المجتمع الدولي

د. أحمد عبد الرزاق شكارة يوم عظيم انتصاراللعدل عبارة تنم عن وصف واضح مركز ساقه الاستاذ المحامي الفلسطيني راجي صوراني عن طبيعة الدور الايجابي المؤثر للمحكمة الجنائية الدولية متمثلا بإصدار مذكرتي القاء القبض تخص...
د. أحمد عبد الرزاق شكارة

الاندماج في العراق؟

أحمد القاسمي عندما نسمع بمصطلح الاندماج يخطر بأذهاننا دمج الأجانب المقيمين في بلد ما. فاستخدام هذا المصطلح بات شائعا منذ بضعة عقود في الغرب ويُستخدَم غالبا عند الحديث عن جهود الدولة أو مؤسسات المجتمع...
أحمد القاسمي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram