TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > إشكاليات المثقف بعد التغيير

إشكاليات المثقف بعد التغيير

نشر في: 14 يناير, 2025: 12:03 ص

د. قاسم حسين صالح

كنت حريصا على ان اتابع ما حصل للثقافة في العراق بعد 2003 لغاية الان. فبعد سقوط النظام الدكتاتوري الذي اعتمد ثقافة الحاكم الواحد والحزب الواحد، حصل اول تحول سيكولوجي بظهور (ثقافة الضحية) التي صنفت العراقيين الى ضحيتين(الشيعة والكورد) وان على الضحية المظلومة ان تقتص من الجلاد الظالم (السنّة).
ومن أول سنة تغيير(3003) تراجعت (ثقافة المواطنة) يوم سدد لها بريمر ضربة(ثقافة التثليث.. شيعة،سنة،كورد).
بعدها بسنة ظهرت (ثقافة الأحتماء)..فبعد ان تعطل القانون وصارت الحياة فوضى والسلطة لمن هو اقوى في الشارع..اضطر البغداديون بشكل خاص الى ان يغادروا بغداد ليحتموا اما بالعشيرة او المدينة التي ينتمي لها.. كأن يذهب الراوي الى راوه مثلا.
بعدها بسنتين شاعت وتعمقت (ثقافة الولاءات المتعددة) التي تفرّق لتصل الى ابشع حال في احتراب (الهويات القاتلة) لسنتين كارثية(2006-2008)،ورفع من صار رئيس وزراء في حينه شعار (صارت عدنه وما ننطيها). وتراجعت ثقافة التسامح وثقافة الحوار،لتظهر ثقافات متعددة الأسماء: ثقافة التحرير، ثقافة الغزو، ثقافة العمالة، ثقافة الارهاب،ثقافة المقاومة،وثقافة كاتم الصوت.وكان اقبحها هي(ثقافة الطائفية) التي وزعت العراقيين الى جماعات تفرقها ثقافة التعصب وتجمعها ثقافة الكراهية.
المثقف..بعد التغيير
من عادتي ان استطلع الرأي العام حين اريد توثيق ظاهرة اجتماعية او ثقافية، وقد فعلت ذلك بخصوص حال المثقف العراقي بعد التغيير في (2017)، اليكم نماذج من اجاباتهم:

  • المثقف العراقي يواجه ثقافة دينية طائفية عشائرية مدججة بالسلاح والمال والنفوذ، لكنه رغم ذلك يعمل ويبدع ويقاوم.
  • المثقفون لا يملكون قوة المال ولا غاز مسيل للدموع، والهجمة الان ضخمة وقوية.
  • بدون زعل،لانهم لم يسمعوا كلام غادة السمان فهاجروا ثم ذبلت ازهارهم هناك ولم يدركوا ان الاشجار لا تهاجر.
  • المثقفون..منهم من وجد ذاته بعيدا وغادر الوطن ولم يتذكره، والموجودون في واد والجماهير في واد اخر، ومنهم من انساق وراء مغريات السلطة للاسف.
  • لا يوجد تاثير للمثقف على سواد الناس الذين يمثلون قاعدة الجهل العريضة ويتاثرون بخزعبلات الملّا والمشعوذ،والبعض منهم يعتبر المثقف بانه ينشر الكفر بين الناس.
    وبعد ست سنواتٍ وفي العام (2023) أعدنا الاستطلاع ذاته، إليكم نماذجَ من إجابات حرصنا أنْ تحملَ أفكاراً مختلفة:
  • حسب رأي غرامشي: الأكثريَّة في المجتمع هم مثقفون لكنْ بثلاثة أصناف: التقليدي المهني مثل الموظف والمعلم، والثاني الذين يعرفون الأخطاء ويقبلون بها طمعاً بعطاءٍ من السلطة وهم الأغلبيَّة في العراق من كتاب وفنانيين وآخرين، والثالث هم الذين يشخصّون الأخطاء ويعملون على تصحيحها ويدافعون عن التغيير نحو الأفضل.
  • المثقف العراقي الحقيقي غائبٌ أو مغيبٌ في وسط هذا التزاحم والفوضى وقلة الوعي وانتشار الخرافة والتدين الزائف والجهل المدقع والتدليس والأمية بكل أنواعها. هناك مثقفٌ اجتماعيٌّ يحملُ همومَ الناسِ ويسعى إلى تغيير الواقع، وآخر لا يهمه سوى منجزه الأدبي. أما الانتهازيون والمتكسبون فهم الفئة الأكبر الآن، وهؤلاء يلعقون ما ترميه لهم السلطة ويعتاشون على فتاتها.
    ويرى آخرون أن المثقفين بعد التغيير قليلون جداً،والسبب هو تغليب النزوات والغرائز على العقل بسبب ظروف الحرب وقساوة الحياة وتدمير عقل الإنسان، وأن الكم الهائل من ثقافة العصر جعلت من الصعب على المثقف الحفاظ على موقعه،وأن المثقف العراقي إنسانٌ أولاً،منهم النرجسي والموضوعي والذاتي والمتواضع والمتكبر الذي لا تغير ثقافته من طبعه، وليس مطلوبا منه أنْ يطلبَ من الآخرين جلد ذواتهم، وهو الأمر الذي يحدث لدينا ولا يحدث في العالم المتقدم الذي يعدُّ المشاركة الثقافيَّة فخراً لصاحبها..كما يضيفون.
    ثلاث اشكاليات
    نقصد بالمثقف هنا الذي يمتلك نزعة انسانية ورؤية شاملة وضميرا اخلاقيا ومعارضة موضوعية لواقع لا يليق بحرية الانسان وكرامته..هذا المثقف بالتحديد يعيش اكثر من اشكالية:
    الأولى سيكولوجية..يشعر فيها بالتهميش فيعاني بسببها الاغتراب وفقدان المعنى من وجوده في الحياة.
    الثانية.. فجوة كبيرة بينه وبين المجتمع.. خلاصتها انه يرى المجتمع قد وصل الى حالة (بعد ما تصيرله جاره).
    الثالثة الأخطر..اشكاليته مع السلطة..،فهو ناقد بطبيعته للجوانب السلبية،فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها،وادراكه بان الصورة التي تحملها السلطة عنه بأنه (عدو) وانها تخشاه لانه اقرب منها نفسيا للناس، والأصعب..أن السلطة تشعر بالنقص الثقافي امام المثقف،فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: شعور السياسي بالنقص وشعور المثقف بالاستعلاء.
    العراق..خامسا
    توثق شبكة الساعة وشفق نيوز بالاسماء مقتل (نحو 300) صحفيا ومثففا في العراق بعد 2003، فيما اشار تقرير (للجزيرة) ان العراق (حلّ بالمرتبة الخامسة على مستوى العالم في مؤشر افلات قتل الصحفيين والمثقفين من العقاب بالرغم من وجود قوانين تعنى بحماية الصحفيين).
    والأسوأ.. ان تعرض المثقفين والصحفيين الى القتل..ازداد الآن بعد سيطرة المليشيات على الشارع العراقي،واوصلت المثقفين الى ان يعيشوا واحدة من أسوا المحن التي مرّت بهم.. فتوزعوا بين من غادر الوطن مضطرا، وبين من وجد ان لا معنى للحياة دون حرية قلمه فدخل حالة الاغتراب النفسي، وبين من هادن السلطة والتحق بهذا الحزب او ذاك لتامين لقمة العيش لعائلته، وبين من وضع كفنه على راحة يديه.. ويعلم أنه مقتول مقتول.
    بقي علينا ان يكون لدينا فهم مشترك بأن الثقافة تعني..نوعية الأفكار والمعتقدات والأخلاق التي نحملها بخصوص انفسنا والآخرين والعالم،وأنه لهذا السبب جرى الأعتراف بها دوليا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر بقرار الجمعية العامة عام 1984الذي أكد على أن (لكل شخص الحق في ان يسهم بحرية في الحياة الثقافية للجماعة، وفي ان يتمتع بالفنون، و يشارك في مختلف انواع التقدم العلمي وفي الفوائد الناجمة عنها).
    وعراقيا،انشغل جيل الشباب "بثقافة " الفيسبوك و و..وما عاد يعرف حتى رموز الثقافة في وطنه..وبينهم من لا يعرف حتى الجواهري ومظفر النواب.(سألت شابين كانا معي في الطائرة..هل تعرفان الجواهري؟ اجابا: لا، هل تعرفان مظفر النواب، اجابا: ما نعرفه!).
    وكثير من العراقيين يغفلون دوره الثقافة، ولا يدركون ان ما نحمله من قيم وأخلاق.. هي من صنع الثقافة. والأكثر من ذلك ان الثقافة هي التي تتحكم بسلوكنا، وانها هي السبب في اختلاف سلوك رجل الدين عن سلوك الأرهابي، وسلوكك عن سلوك الآخر..ولك ان تتذكر كيف كان سلوك العراقي في ثلاثة أزمان: الملكي والجمهوري والديمقراطي بعد التغيير. ولك ان تعرف ايضا ان تضاعف حالات الطلاق والانتحار وتحول الفساد من فعل كان يعدّ خزيا في قيمنا العراقية الى شطارة وانتهاز فرصة.. سببه الرئيس شيوع ثقافة الخرافة والنفاق والدجل وتوظيف الدين لخدمة الحاكم الفاسد.. وتلك هي الأشكالية التي يعيشها المثقف العراقي الحقيقي و محنته في الزمن الديمقراطي..التي غاب فرجها باغتيال ثورة تشرين!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جنرالات الطائفية

العمود الثامن: لماذا لا نثق بهم؟

الصراع على البحر الأحمر من بوابة اليمن "السعيد" 

كيف يمكنناالاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمود الثامن: رئيستهم ورئيسنا !!

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

 علي حسين أعرف جيداً أن البعض من الأعزاء يجدون في حديثي عمّا يجري في بلدان العالم نوعاً من البطر لا يهم المواطن المشغول باجتماعات الكتل السياسية التي دائما ما تطابنا بـ " رص...
علي حسين

قناطر: الربيع الأمريكي المُذِل

طالب عبد العزيز هل نحن بانتظار ربيع أمريكي قادم؟ على الرغم من كل ما حدث، وقد يحدث في الشرق الأوسط، نعم، وكم هو مؤسف أن تتحرك دفة التغيير بيد القبطان الأمريكي الحقير، وكم قبيح...
طالب عبد العزيز

تضارب المصالح بين إسرائيل وتركيا في سوريا وعواقبه

د. فالح الحمـــراني كما بات معروفاً، أن وزير الدفاع الإسرائيلي وبنيامين نتنياهو*، خلال لقاء حول موضوع الوجود التركي في سوريا، طرحا مقترحاً لـ"تقسيم سوريا إلى مناطق مقاطعات (الكانتونات)". وذكرت صحيفة إسرائيل هايوم عن خطة...
د. فالح الحمراني

النظام السياسي في العراق بين الخوف من التغيير وسؤال الشرعية

أحمد حسن لفهم حالة القلق التي تخيم على النخبة السياسية في العراق مع كل تغيير داخلي أو إقليمي، لا بد من تحليل عميق يرتكز على أسس واضحة ومنطقية. فالشرعية السياسية، التي تعد الركيزة الأساسية...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram