آنغوس فليتشر
ترجمة: لطفيّة الدليمي
القسم الاول
القصّة Story
القصّة وسيلةٌ لمناقلة الافكار وليس لإنتاجها. نعم بالتأكيد، للقصّة إستطاعةٌ على إختراع البُرهات الفنتازية (الغرائبية)، غير أنّ هذه الاستطاعة لا تمنحها القدرة على تخليق ذكاء حقيقي. الذكاء الحقيقي موسومٌ دوماً بالقدرة على التفكير بكيفية نقدية من شأنها دفعُ الحكايات القديمة (حكايات الجنيات Fairytales من بينها) دفعاً لتستحيل حقائق محسوسة ومبادئ مستدامة.
هذا ما علّمني أياه مُعلّميّ في المدرسة. فضلاً عمّا تعلّمته أعلاه، وكتأسيس منطقي يُبتنى عليه، فقد تعلّمتُ أيضاً أنّ الشكل الفعّال للقصة هو الحكي القصصي (القص) Storytelling.
القصّ هو كتابةُ سرديةٍ ما أو الحديثُ بها، تماماً مثلما يكتبُ كُتّابُ السيناريو نصوص الافلام التي يعملون عليها، أو مثلما يتحدّثُ الفيزيائيون سعياً لتوضيح مفهوم الانفجار الكبير Big Bang. في العادة تنطوي كلّ فعالية سردية (سواء كانت كتابة أو مشافهة) على التخييل Fiction أو البلاغة Rhetoric، وفي أحايين قليلة الاثنيْن معاً.
التخييل – بالكيفية التي حذّرني بشأنها معلّميّ- نشاط مكتنف بالخطر الجسيم لأنّ مفردة (تخييل) ليست سوى غطاء لمفردة أخرى: الكذب. الحال مع البلاغة أسوأ من التخييل، هكذا أخبرني معلّميّ. هُم حسبوا البلاغة وسيلة يجاهدُ مبتدعوها لأن تُضفي على أكاذيب التخييل غطاءً من المشروعية الكاملة. برغم كلّ هذا ثمّة مفارقةٌ مدهشة أضافها معلّميّ مفادُها أنّ التخييل والبلاغة يمكن أن يكونا معلّميْن حقيقيّيْن: إنّ كتاب رسوم متحرّكة يمكنُ أن يلهمنا الكياسة واللطف في التعامل مع الآخرين، وإنّ مقالة مكتوبة بحذق واحتراف يمكن أن تكون وسيطاً ناقلاً للمعرفة على أوسع النطاقات الممكنة.
كيف يمكن هذا؟ كيف يمكنُ للأكاذيب أن ترتقي بالحقيقة؟ وما الذي تسبّب في مقدرة أدمغتنا على التعلّم من سلسلة حكايات خرافية عتيقة؟ هل هذه دعابة ذهنية، أم أنّ الحقيقة تذهب إلى أعماق أبعد من هذا التناقض المرئي على السطح؟
أصابتني حيرةٌ مربكة إلى أقصى الحدود جعلتني أبدو كمن وقع في فخ مكين. لطالما دُهِشتُ طويلاً وتأمّلتُ في القدرة الساحرة للقصص. قصصٌ على شاكلة ملِكُ الخواتم The Lord of the Rings، فرانكنشتاين Frankenstein، عطيل Othello جعلتني أتساءل طويلاً: هل علّمتني هذه القصص المحببة لي بين مفضّلاتي القرائية ما هو صوابٌ أم ما هو خاطئ؟ وتحت هذا السؤال الاشكالي كان يمكثُ سؤال آخر أكثر إثارة للإهتمام: ما السرّ الكامن في قلب القصّ الصادق؟ حدّثني عقلي أنّني لو وجدتُ السبيل للكشف عن هذا السر فسيكون بمستطاع البشر حينها التخلّصُ من ساعات طويلة مؤلمة من الضجر والارتباك والحيرة. سمعتُ صوتاً لم يفتأ يتعالى في دواخلي: جِدْ ذلك السر وحينها سوف تنكفئ مناسيبُ الضلالة الدعائية مؤذنة بإنتهاء سطوة غاسلي الادمغة من الغوغائيين الاعلاميين.
مسكوناً بهذا التوجّه من التفكير إنطلقتُ في مسيرة سعي حثيث ابتغاءً لإجابات معقولة ومنطقية تتجاوز المواضعات السائدة. بعدما أكملتُ فترة دراستي الاكاديمية لأربع سنوات أواخر تسعينيات القرن الماضي في مختبر للفسلجة العصبية بمدينة ميشيغان باحثاً في الكيفية التي تتفاعل الخلايا الدماغية مع بعضها، مضيتُ في إكمال متطلبات الدكتوراه PH.D في الادب بجامعة ييل، وقد اتخذتُ من بعض شؤون شكسبير موضوعاً للدراسة، ثم إنطلقتُ عقب ذلك غرباً نحو كاليفورنيا (جامعة ستانفورد) حيث أمضيتُ فترة هناك في سياق إكمال دراسة ما بعد الدكتوراه التي جعلتها مخصوصة لتتناول نطاق حقل النظرية السردية.
وظّفَت النظرية السردية مزيجاً من الادوات الادبية (بعضها يمتدّ به العمر لأكثر من ألفيْن وثلاثمائة سنة) لتشريح الحبكات الروائية والشخصيات التي تصلح أحياناً أن تكون سينمائية. مندهشاً بهذه القدرة الهائلة للنظرية السردية، وراغباً في الوقت ذاته بالاستزادة في دراسة الموضوع وإشباعه بحثاً إضافياً، عمدتُ إلى مزاوجة تلك الرؤى السردية ببعض تقنيات العلوم العصبية التي تعلّمتُها من قبلُ في مختبر ميشيغان. جعلتُ حينذاك آلافاً من القرّاء النهمين للكتب الادبية ومرتادي المسارح عُرْضة لتجارب مثيرة صمّمتها للإمساك بتلك اللحظة السحرية (الخيميائية) حيث ينصهر السرد متفاعلاً بكيفية عجائبية مع الوعي البشري. ما النتيجة؟ تغيير مثير في هذا الوعي.
وأنا غاطسٌ في دراسة فعل كلّ هذه التفاصيل الدقيقة، وبعد أن أكملتُ سلسلة التجارب المثيرة هذه إنتهيتُ إلى إكتشاف غير متوقّع: علّمني مُعلّميّ السابقون القصّ والقصة بكيفية خاطئة. ليست وظيفة القص والقصة مخصوصة في نطاق الحكي Telling. خُلِقَت القصّة لغرض أكثر أساسية وجوهرانية في المعيش البشري.
القصّة خُلِقت لأجل التفكير.
التفكير القصصي Storythinking
نشأ التفكير القصصي في وقت أقدم من المؤلّفين (صانعي الحكايات)، والبشر، وحتى اللغة. التفكير القصصي يمتد بعيداً في الزمن السحيق إلى مئات ملايين السنوات بلوغاً لأولى الآليات التطورية التي شكّلت الدماغ الحيواني. هذا القول مكافئ لقول آخر: التفكير القصصي يمتد إلى المنابع الاولى التي شكّلت الحياة على الارض.
أصلُ الحياة يكمنُ في العبارة التالية: الفعل الخلّاق (الابداعي) Creative Action. أو لو شئنا الوصف بمفردات علمية صارمة: وظائف جديدة يمكن إعادتها وتطويرها مع الزمن. السلوك الابتكاري المقترن بأعلى الاشكال الابداعية مكّن الانواع البيولوجية الاولى التي تشكّلت في الارض على التكيف مع الظروف البيئية السائدة، وفضلاً عن هذا حصل نوع من السباق التنافسي في تعظيم الخواص التكيفية بين الانواع البيولوجية ممّا مكّن بعضها من التفوق في خواصه البيولوجية على الانواع الأخرى.
قبل أكثر من بليون عام بات الفعل الخلاق وظيفة أساسية لبدائيات النوى Prokaryotes سوطية الذيل، ثمّ قبل أكثر بقليل من خمسمائة مليون عام صار الفعل الخلاق وظيفة تختص بها الخلايا العصبية. كانت الخلايا العصبية في تشكلاتها البدائية الاولى غير قادرة على إمتلاك مشاعر الحس البيولوجي والاحساس العاطفي، لذا لم يكن متوقعاً منها (أو مقصوداً لها) السلوكُ بفعالية إبداعية. مع تطوّر آليات الانتخاب الطبيعي بطريقة غير قصدية طوّرت الخلايا العصبية طريقة آلية (ميكانيكية) للإتيان بفعاليات بيولوجية. كانت هذه المقاربة السلوكية تقوم على تعديل السلوك بفعل آلية التغذية الاسترجاعية Feedback القائمة على الاستفادة من التجربة والخطأ وتحويل مخرجات الفعل إلى حركات وسلوكيات جديدة مفيدة. منذ هذه البدايات المبكرة الاولى صار الفعل الخلاق وظيفة الجهاز العصبي للفقريات (الانسان من بينها). هذه الوظيفة هي التي مكّنت الانسان (بكيفية واعية وقصدية أحياناً، وأحياناً أخرى بكيفية قسرية وتلقائية) من إجتراح أفعال لم يسبق له فعلُها أو تجربتُها، ومن ثم التعلّمُ منها والاضافة التطويرية لها. من هذه الافعال مثلاً: الصيد، الهرب من مكامن الخطر، البناء، الغناء، الحب،،،، حتى انتهى بنا الامر في السلسلة التطورية للانسان قبل بضع مئات ألوف من السنوات لان يكون الفعل الخلاق وظيفة يختصُّ بها الدماغ البشري.
عزّز الدماغ البشري قدرات أسلافنا في العصر الحجري ومكّنهم من الاستجابة الفعالة للتحديات والحوادث الصدفوية عبر اقتران الافعال الخلاقة بخطط سلوكية جديدة. هذا القول مكافئ للقول أنّ الفعل الخلاق للدماغ البشري لأسلافنا في العصر الحجري مكّنهم من تخليق حبكات Plots جديدة. تخليق الحبكات هذا كان شكلاً من الادراك السردي الذي يمكن توصيفه بالتفكير القصصي.
التفكير القصصي يتأسّسُ جوهرياً على التأمّل في، ومساءلة، موضوعتين جوهريتيْن: لماذا Why، وماذا لو What if. إنّه تنقيب حدسي في المسببات واستخلاص النتائج المترتبة عليها، وإلى جانب هذا الكشف الحدسي يعمل التفكير القصصي على التمعّن الرؤيوي في ما يمكن أن يترتب على قواعد فعل مختلفة من نتائج متباينة. يمكن وصف التفكير القصصي ذهنياً بأنه سلسلة من النمذجة Modeling، وَضْعُ الافتراضات Hypotheticals، التفكّر في النتائج الممكنة Possibles، محاكمة النتائج المخالفة للحقائق اليومية Counterfactuals، وأشكال أخرى ممّا يمكن إدراجه في عِداد ما يمكنُ أن يحدث. يعمل التفكير القصصي على استخدام آلية عمل أدمغتنا البشرية في تخليق شخصيات ووقائع جديدة في نطاق عوالم قصصية ليس لها نظائر مشخّصة في العالم الواقعي، ومن ثمّ التفكّر في ما يمكن أن يحصل في هذه العوالم المُخلّقة. التفكير القصصي بهذا المعنى نظير لآلية الانتخاب الطبيعي، لكن بطريقة متخيلة تمّ تسريعها من قبل الكائن البشري.
بهذه الكيفية أصبح التفكير القصصي أداة للذكاء البشري. خفّف هذا التفكير القصصي من قساوة وخشونة الآلية غير الكفوءة للتطور الدارويني، وجعلها وسيلة محرّكة للنمو الغائي Purposeful Growth (أضفى التفكير القصصي معنى على آليات التطور الدارويني عديمة القصد والمعنى في ذاتها، المترجم). هذه الفعالية الغائية مكّنت الانسان من التخطيط لأشكال أفضل من المستقبل، مع تشخيص دقيق للكيفية التي يمكن بها للأفعال الفردية من المساهمة الفاعلة في تشكيل هذا المستقبل المتخيّل. التفكير القصصي هو الذي ساعد أسلافنا القريبين من الحلم بالجمهوريات، وعصور النهضة، وسفن الفضاء العاملة بالدفع الصاروخي في أيامنا هذه. وبمعونة التفكير القصصي ذاته إندفعنا في تحديث أدواتنا السردية التي ساعدتنا في خلق الثورات السياسية، والحركات الفنية، والانعطافات التقنية. فضلاً عن هذه الثورات والحركات والانعطافات التي نشهدها في عصرنا الحالي يعمل التفكير القصصي على توظيف مخرجات هذه الوقائع المستجدة وتحويلها مدخلاتٍ في نطاق فعالية إسترجاعية تفيدنا في رسم معالم المستقبل عبر الوسائل السردية المناسبة.
كيف أغفل مُعلّميَّ هذه التفاصيل ولم يروها؟ كيف جاز لهم حصرُ نطاق القص واختزاله إلى وظيفة المُناقلة التداولية للأفكار بدلاً من المساهمة النشطة في تخليقها؟ كيف فاتهم إدراكُ أنّ التفكير القصصي يمكن أن يكون ماكنة عقلية لإيجاد حلول عملية للمعضلات البشرية والمساهمة في الابتكارات الحاصلة في ثنايا العالم الواقعي؟ الجوابُ هو: إكتفى معلّميّ بالاصغاء إلى الفلاسفة الذين نجحوا في إقناع مُعلّميّ - مثلما نجحوا في إقناع سواهم - بأنّ الذكاء ينبثق من المنطق وليس من القصة!!
يتبع القسم الثاني
ملاحظة المترجمة: يعمل البروفسور أنغوس فليتشر Angus Fletcher (الحاصل على الدكتوراه من جامعة ييل في حقل اللغة الانكليزية) أستاذاً للغة الانكليزية ودراسات الفلم في جامعة ولاية أوهايو. يشغلُ فليتشر موقعاً فاعلاً في المشروع المسمى (سرد Narrative)، وسبق له التدريس في جامعات ستانفورد وييل وجنوب كاليفورنيا. ألّف كتباُ عديدة أذكرُ منها التالية:
- الزمان، المكان، والحركة في عصر شكسبير (2009)
Time, Space, and Motion in the Age of (Shakespeare 2009) - الحكاية الرمزية: نظرية في النمط الرمزي (2012)
Allegory: A Theory of Symbolic Mode (2012) - أعمال مدهشة: المكتشفات الخمسة والعشرون الأكثر تأثيراً في تأريخ الأدب (2021)
Wonderworks: The 25 Most Powerful Inventions in the History of Literature (2021)
أحدثُ الكتب المنشورة للبرفسور فليتشر هو الكتاب الموسوم:
التفكير القصصي: العلم الجديد للذكاء السردي
Storythinking: The New Science of Narrative Intelligence
المنشور عام 2023 عن دار نشر جامعة كولومبيا الامريكية. أدناه ترجمة لمقاطع منتخبة من الفصل الاول من الكتاب.