TOP

جريدة المدى > سينما > فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

نشر في: 16 يناير, 2025: 12:02 ص

علي بدر
الحكاية تُروى بالضوء والظل
عرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق من انتاج المؤسسة العالمة للسينما في سوريا.
يحكي الفيلم قصة عائلتين ريفيتين في البيئة العلوية بسوريا، تتشابك حياتهما من خلال تقاليد زواج المقايضة، وهي عادة اجتماعية تعكس سيطرة العائلة على الأفراد، لا سيما النساء.
تدور الأحداث حول حفل زواج مزدوج يجمع بين ابن العم القادم من ألمانيا، الذي يعود إلى الريف للزواج من سناء، وبين شقيقها الذي يتزوج بدوره من ابنة العم. هذا الحفل، الذي يُفترض أن يكون رمزًا للفرح والتواصل العائلي، يتحول إلى مشهد من الصراعات العائلية والتوترات الكامنة، حين تهرب إحدى العروسين في ليلة الزفاف، ما يفتح الباب أمام سلسلة من الأحداث التي تكشف هشاشة العلاقات الأسرية وسيطرة التقاليد القمعية.
الفيلم والبيئة العلوية
لكن في عمق هذا الفيلم السوري تكمن قراءة معقدة للبيئة العلوية، إذ تُقدَّم كفضاء اجتماعي وثقافي تتحكم فيه السلطة وتُعاد إنتاجها داخله. وهذه القراءة، رغم ثقلها الدرامي وجمالياتها البصرية، تسقط في فخ تصوير قسري للبيئة العلوية كمنتجة للهيمنة السياسية، وكأنها المصدر الحصري للسلطة في سوريا. إذ يحاصر هذا الفيلم البيئة التي يعالجها في إطار مغلق مركزاً على مظاهر القمع والتسلط، متجاهلًا تنوعها وتفاصيلها الإنسانية.
منذ البداية، لا يُصور الريف العلوي في الفيلم فضاءً بريئًا أو محايدًا، بل يُصور كمختبر أولي للسلطة، حيث تُغرس بذور القمع في العلاقات العائلية. العائلة في الفيلم هي مرآة للنظام السياسي: الأخ الأكبر خليل، المتسلط الذي يفرض هيمنته على الجميع، لا يظهر كفرد له تعقيداته الإنسانية، بل كرمز للسلطة المطلقة التي لا تقبل أي تحدٍ أو معارضة. بهذا الشكل، يُختزل الريف إلى مسرح للسيطرة، وكأن العائلة فيه هي مصنع صغير يعيد إنتاج القمع الذي يهيمن على الدولة بأكملها.
إن هذا التقديم في الواقع ينطوي على إشكالية كبيرة. إذ يظهر الفيلم البيئة العلوية وكأنها متواطئة بشكل عضوي مع السلطة، وكأنها البيئة الحصرية التي تنتج رموز الهيمنة وتنفذ آلياتها. هذا التصور يتجاهل حقيقة أن أغلب أبناء هذه البيئة عانوا من الفقر والتهميش مثل غيرهم من المجتمعات السورية. التركيز على العائلة كفضاء للسلطة، دون التطرق إلى قصص المقاومة أو التعقيد الإنساني في هذه العلاقات، يجعل الصورة النهائية تبدو غير عادلة ومتحيزة.
الشخصيات النسائية، وعلى رأسها سناء، تُستخدم كأدوات لإبراز هذا النظام القمعي. سناء، التي تُجبر على الخضوع لقرارات العائلة والزواج من عباس، ليست شخصية مستقلة، بل رمزاً للمرأة التي تقع تحت وطأة مجتمع بطريركي وسلطة ذكورية. لكن الفيلم لا يمنحها مساحة للتعبير عن نفسها أو مقاومتها، مما يجعلها تبدو كضحية مستسلمة، ويعزز الصورة النمطية للمرأة العلوية ككائن مقهور دائمًا.
كما أن المدينة، كما تُصور في الفيلم، ليست سوى امتداد للريف، بينما هي تعمل على مستوى أكثر تعقيدًا. دمشق في "نجوم النهار" هي فضاء تُعاد فيه صياغة الهيمنة الريفية بأسلوب مختلف. صور المغني فؤاد غازي، التي تغمر شوارع المدينة، ليست حضوراً ثقافياً فقط، بل استعارة لفرض الهوية الريفية على المدينة. ويظهر هذا التقديم وكأن الثقافة العلوية هي ثقافة سلطوية تُفرض على الجميع، متجاهلًا أن هذه الثقافة نفسها كانت تُستخدم كأداة بيد السلطة، ولا تعكس بالضرورة خيارات الأفراد الذين ينتمون لهذه البيئة.
المشهد البصري في الفيلم يعزز هذا الإطار القسري. الكاميرا، التي تتسلل بين الشقوق والظلال، تُظهر الريف كفضاء معتم ومخنوق، وكأنه لا يحمل أي أمل أو جمال. كل لقطة تبدو كأنها تأكيد على أن القمع هو السمة الوحيدة لهذه البيئة. حتى مشهد الدخان الأبيض في النهاية، الذي يبتلع الأخ الأصغر في المدينة، يعكس فكرة أن الهروب من هذا النظام مستحيل، وأن المدينة ليست سوى امتداد للهيمنة التي تبدأ في الريف.
لكن هذا التوجه يحمل خطرًا كبيرًا. حين يُصور الفيلم البيئة العلوية بهذه الطريقة، فإنه يترك انطباعًا بأنها المصدر الحصري للسلطة والقمع في سوريا، متجاهلًا التعقيد الاجتماعي والسياسي الذي يميز هذه البيئة، وواقع أن السلطة السورية لم تُنتج فقط من خلال العلويين، بل كانت نتيجة تفاعل معقد بين الطوائف والطبقات والمصالح السياسية.
"يقدم نجوم النهار" قراءة قوية ومؤثرة للنظام القمعي في سوريا، لكنه يفرض هذه القراءة بشكل مبالغ فيه على البيئة العلوية، مما يجعلها تبدو وكأنها المصدر الوحيد لهذه السلطة. هذه القراءة القسرية قد تخدم سردية سياسية معينة، لكنها تفشل في تقديم صورة متوازنة وعادلة لهذه البيئة. إذا أن هذا الفيلم، في سعيه لنقد القمع، يقع في فخ تعميم القهر على طائفة بأكملها، مما يجعل النقاش حوله ليس فقط عن فنيته، بل عن مسؤولية السينما في تقديم صور أكثر تعقيدًا وعدالة.
الجماليات الفنية
يكمن الجمال البصري للفيلم في الطريقة التي تُستخدم بها الكاميرا لرصد التفاصيل الدقيقة للمكان والشخصيات. كل لقطة، كل زاوية، تبدو وكأنها لوحة فنية تنطق بما هو أكثر من الكلام. الضوء والظل هما عنصران أساسيان في بناء المشاهد، حيث تُبرز التناقض بين العتمة الداخلية للشخصيات والنور الذي قد يوحي بالأمل أو يكشف الحقيقة. الكاميرا لا تكتفي بتوثيق المشهد، بل تنظر إليه، تتأمله، وتدعونا للغوص في معانيه.
مشهد العرس، على سبيل المثال، الذي يُصور عبر كاميرا وكأنه بث تلفزيوني رسمي، يحمل في تفاصيله نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا، لكنه أيضًا يستحضر الجماليات البصرية من خلال التركيب المتقن للصورة، الحركة داخل الكادر، والانعكاسات البصرية التي تُبرز الفجوة بين الاحتفال الظاهري والتوتر الداخلي.
لم يكن الريف في الفيلم مجرد خلفية للأحداث، بل هو بطل صامت يساهم في بناء الحكاية. التلال، الأشجار، الفضاءات المفتوحة، كلها تبدو وكأنها تتحاور مع الشخصيات. لكن هذه الطبيعة، التي تحمل جمالًا خارقًا، تُستخدم أيضًا لتوضيح قسوة الحياة فيها. الجد الذي يبحث عن مكان مناسب لقبره على التلال ليس شخصية تائهة فقط بل هو استعارة لرغبة الإنسان في الهروب من قسوة الواقع، والبحث عن فسحة من السلام.
تصبح التلال والجبال، التي قد تبدو شاهقة وجميلة، رموزًا للحصار والعزلة، في تناقض بين ما يبدو وما يُعاش. هذه الازدواجية في تصوير الريف تعكس مهارة المخرج في تقديم الجمال كجزء من سردية القمع. فلم تكن الكاميرا في "نجوم النهار" أداة لرصد الأحداث فقط، بل هي عين واعية تستكشف الأبعاد الخفية للمكان والشخصيات. فتضيف حركات الكاميرا البطيئة والمتأملة بعدًا شعريًا للحكاية، وتجعل المشاهد يتوقف عند التفاصيل الصغيرة التي قد تحمل في طياتها معاني أكبر.
مشهد الدخان الأبيض في النهاية، الذي يبتلع الأخ الأصغر، هو مثال على براعة استخدام الكاميرا في خلق لحظة رمزية. الحركة داخل المشهد ليست مجرد تسجيل للواقع، بل هي فعل سردي يروي ما لا يُقال بالكلمات.
المبالغة في التمثيل وضعف السيناريو بين الرمزية والتشويش
رغم أن هذا الفيلم يُعتبر أحد أهم المحاولات السينمائية لنقد المجتمع والسلطة في سوريا، إلا أنه يعاني من ثغرات واضحة في الأداء التمثيلي وفي بنية السيناريو. هذه الثغرات تتجلى بشكل أساسي في الميل إلى المبالغة في تجسيد الشخصيات، والتصوير النمطي للأدوار، مما يجعل الفيلم يفقد جزءًا كبيرًا من واقعيته وقوته الدرامية.
فالشخصيات في "نجوم النهار" تبدو وكأنها تتحرك داخل عالم مبالغ فيه، حيث تصبح تصرفاتها أشبه بالمسرحيات الهزلية. الأخ الأكبر خليل، على سبيل المثال، يظهر كشخصية متسلطة بطريقة فجة تفتقر إلى التعقيد أو الإنسانية، مما يجعله يبدو أقرب إلى كاريكاتير للسلطة بدلًا من كونه انعكاسًا واقعيًا لها. تعبيراته، نبرته، وتحركاته تبدو مبالغ فيها بشكل يبتعد عن الطبيعة، مما يفقد الشخصية قدرتها على التأثير أو الإقناع.
الأمر ذاته ينطبق على الشخصيات الأخرى، مثل عباس، الزوج العسكري. أداؤه الحاد والمبالغ فيه يجعل الشخصية تبدو منفصلة عن الواقع، وكأنها مجرد رمز للقمع دون أي أبعاد إنسانية. هذه المبالغة تجعل المشاهد يشعر بالتكرار والسطحية بدلًا من التعاطف أو الاندماج. حتى الشخصيات الثانوية، مثل العريس العائد من ألمانيا أو المثقف الانتهازي، تتسم بأداء استعراضي يفتقد للبساطة أو العمق، مما يحولها إلى أدوات رمزية جامدة بدلًا من أن تكون أناسًا من لحم ودم.
ضعف السيناريو: رمزية متضخمة وغياب العمق الدرامي
رغم محاولته تقديم نقد اجتماعي وسياسي عميق، يعاني السيناريو من افتقار واضح للتوازن بين الرمزية والسرد. فيغرق في الرمزية إلى درجة تجعل الأحداث تبدو مفتعلة وغير مترابطة بشكل عضوي. الحوارات، على سبيل المثال، تتسم بالثرثرة المبالغ فيها، وغالبًا ما تكون محملة برسائل مباشرة تُثقل الفيلم بدلًا من أن تخدم تطور الشخصيات أو الأحداث. كما أن الشخصيات لا تتحدث كما لو كانت جزءًا من واقع يومي، بل وكأنها تُلقي خطبًا أو تؤدي أدوارًا مكتوبة مسبقًا لتوصيل رسالة محددة.
أما تطور الحبكة فيعاني من الرتابة والتكرار. ذلك أن العرس الذي يُفترض أن يكون محورًا دراميًا للفيلم، يتحول إلى سلسلة من المشاهد الرمزية التي تفتقر إلى الإيقاع الدرامي. فتتصاعد الأحداث بطريقة متوقعة، دون أي لحظات مفاجئة أو تطورات حقيقية للشخصيات. حتى مشهد النهاية، الذي يُفترض أن يكون ذروة الفيلم، يفتقر إلى التأثير العاطفي بسبب انعدام التراكم الدرامي الذي يمهد له.
أما الشخصيات في الفيلم فهي تفتقر إلى التطور. الأخ الأكبر يظل متسلطًا طوال الفيلم، دون أي لحظة ضعف أو تعقيد. الأخت سناء، رغم أنها الضحية الرئيسية، لا تُمنح فرصة للتعبير عن أفكارها أو صراعاتها الداخلية، مما يجعلها تبدو كشخصية مسلوبة الإرادة تمامًا. حتى الشخصيات الثانوية، مثل الجد أو الزوجة المفترية، تُستخدم كأدوات رمزية دون أي محاولة لإضفاء عمق إنساني عليها.
من جهة أخرى يعاني الفيلم من التكرار في تصوير الرموز والمعاني ذاتها. مشاهد العرس، الصراعات العائلية، وأحاديث الشخصيات تُعاد بشكل يجعل المشاهد يشعر بالإرهاق. بدلاً من تطوير الحبكة أو تعميق الشخصيات، يبدو أن السيناريو يدور في دائرة مغلقة، مما يُفقد الفيلم جزءًا كبيرًا من قوته السردية.
إن المبالغة في التمثيل وضعف السيناريو يجعلان "نجوم النهار" يفقد جزءًا كبيرًا من تأثيره. بدلًا من أن يكون نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا عميقًا، يتحول الفيلم إلى استعراض للرموز والصور التي تُكرر الرسالة ذاتها دون أن تقدم أبعادًا جديدة. إذ تبدو الشخصيات كأدوات رمزية جامدة، والأحداث تتحرك بشكل مفتعل، مما يجعل الفيلم في نهاية المطاف يبدو كعمل بعيد عن الواقع، وأكثر قربًا إلى المسرحية الرمزية الثقيلة.
رغم أهمية الفيلم في سياق السينما السورية كعمل جريء يفتح أبواب النقاش حول قضايا القمع والسلطة، إلا أن ضعف السيناريو والمبالغة في الأداء يقوضان هذه الجرأة، ويجعلان الفيلم أقل تأثيرًا مما كان يمكن أن يكون عليه. ربما كان الفيلم بحاجة إلى توازن أكبر بين الرمزية والواقع، وبين النقد السياسي والعمق الدرامي، ليصل إلى مستوى أكثر إقناعًا وقوة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تضاربات بين مكتب خامنئي وبزشكيان: التفاوض مع أمريكا خيانة

حماس توافق على وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى

البرلمان يعدل جدول أعماله ليوم الأحد المقبل ويضيف فقرة تعديل الموازنة

قائمة مسائية بأسعار الدولار في العراق

التسريبات الصوتية تتسبب بإعفاء آمر اللواء 55 للحشد الشعبي في الأنبار

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram