TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أسباب تخلف العالم العربي في العلوم والتكنولوجيا

أسباب تخلف العالم العربي في العلوم والتكنولوجيا

نشر في: 20 يناير, 2025: 12:03 ص

محمد الربيعي*

في زمن تتسارع فيه الابتكارات العلمية والتكنولوجية بشكل غير مسبوق، نجد ان الدول العربية لا تزال تواجه تحديات كبيرة في هذا المجال، مما يؤثر سلبا على واقعها ومستقبلها. فالدول العربية ليس لها تأثير ملحوظ في الانتاج العلمي والابتكار التقني على المستوى العالمي، وتواجه العديد من التحديات والتغيرات العالمية التي تتطلب مزيداً من العلم والتكنولوجيا. تعود أسباب هذا التخلف الى مجموعة متنوعة من العوامل التي تمتد عبر مختلف المجالات، بدءا من الاقتصاد والمجتمع وصولا الى السياسة والثقافة والدين والتعليم. دعونا نستعرض معا ابرز هذه الاسباب والتحديات التي تواجه الدول العربية ونبحث في كيفية التغلب عليها لتحقيق مستقبل أفضل.
قلة الاستثمار في البحث العلمي:
من الأسباب الاقتصادية قلة الاستثمار في البحث العلمي، حيث تخصص الدول العربية نسبة ضئيلة من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي مقارنة بالدول المتقدمة، وهذا ينعكس على نقص الموارد المالية والبشرية المخصصة للبحث العلمي، وضعف البنية التحتية للبحث العلمي. ففي حين تخصص الدول المتقدمة ما بين 2‌% إلى 3‌% من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي، فأن الدول العربية لا تخصص سوى 0.5‌% أو أقل من ذلك بكثير. كما تلعب ضعف البنية التحتية للبحث العلمي دورا في تخلفه حيث تعاني معضمها من نقص في المختبرات المجهزة بأحدث التقنيات، وقلة عدد الباحثين المؤهلين، وضعف الإمكانيات المتاحة لإجراء التجارب والدراسات العلمية. بالاضافة الى غياب الاستراتيجيات الاقتصادية الواضحة لدعم البحث العلمي. ففي كثير من الأحيان، تخصص الميزانيات للبحث العلمي دون تخطيطٍ مسبق أو تحديد للأهداف المرجوة من ذلك.
يؤدي هذا الأمر إلى هجرة العقول العربية إلى الدول المتقدمة بحثا عن فرص أفضل. فمع توفر الموارد المالية والإمكانيات اللازمة، يفضل العديد من الباحثين العرب العمل في الدول المتقدمة، مما يفقد الدول العربية كفاءات علمية هامّة ويعيق مسيرتها نحو التقدم.
عدم تمكين المرأة:
من الأسباب الاجتماعية عدم تمكين المرأة والمشاركة في المجالات العلمية والتكنولوجية، حيث تواجه المرأة العربية العديد من العوائق الاجتماعية والثقافية والتعليمية التي تعيق تقدمها وتفوقها في هذه المجالات، مثل بعض العادات والتقاليد التي تقيد حريتها وطموحها. كما أن هناك نقصاً في الوعي بأهمية العلوم والتكنولوجيا للمراة في المجتمع العربي، وعدم تقدير العلماء والمبتكرين والمخترعين.
عدم الاستقرار السياسي:
من الأسباب السياسية عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول العربية، حيث تشهد هذه الدول حروباً وصراعات وانقلابات وثورات تعيق التنمية العلمية والتكنولوجية، وتهدر الكثير من الموارد والطاقات. كما أن الدول العربية تفتقر إلى الديمقراطية والمشاركة السياسية، وتعاني من الفساد المالي والإداري، وهذا ينعكس على ضعف الحوكمة والمساءلة والشفافية في إدارة الشؤون العامة.
عدم تشجيع الابتكار والإبداع:
ترجع أسباب ضعف تشجيع الابتكار والإبداع في العالم العربي الى مجموعة من العوامل المتداخلة، منها ثقافة التقليد والخوف من الجديد والتركيز على الشهادات الأكاديمية، بالاضافة إلى نظام تعليمي تقليدي وغير مشجع للإبداع. على الصعيد الاقتصادي والسياسي، يعاني العالم العربي من اقتصاد ريعي وبيروقراطية معقدة وفساد، مما يثبط روح المبادرة والابتكار. كما ان غياب سياسات علمية واضحة وعدم كفاية التمويل المخصص للبحث العلمي يزيدان من حدة المشكلة. على المستوى النفسي، يعاني الأفراد من نقص الثقة بالنفس والخوف من الفشل، مما يجعلهم يترددون في طرح افكار جديدة. ولكن يمكن التغلب على هذه التحديات من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات الشاملة والمتكاملة. يجب على الحكومات والمؤسسات التعليمية والقطاع الخاص والمجتمع المدني العمل معًا لخلق بيئة محفزة للابداع والابتكار. وهذا يتطلب اتخاذ مجموعة من الاجراءات، منها اصلاح النظام التعليمي ليشجع على التفكير النقدي والابداع وتشجيع التعاون العلمي العربي المشترك ودعم رواد الأعمال وتوفير بيئة محفزة لهم وزيادة الاستثمار في البحث العلمي وبناء ثقافة الابتكار في المجتمع والاستفادة من التكنولوجيا الرقمية. كما يجب تمكين المرأة وتشجيع مشاركتها في مجال العلوم والتكنولوجيا وتطوير اللغة العربية لتصبح لغة علمية وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في البحث والتطوير.
ضعف التفكير النقدي:
ضعف التفكير النقدي في العالم العربي هو احد العوائق الأساسية التي تحول دون تحقيق التقدم والازدهار. جذور هذا الضعف متشابكة في النظام التعليمي الذي يركز على الحفظ والتلقين بدلا من تشجيع الطلاب على طرح الأسئلة والتفكير النقدي، وفي الثقافة المجتمعية التي تتسم بتقديس السلطة وتجنب الاختلاف. ان غياب التفكير النقدي يترجم الى قبول الأفكار دون تمحيص، والاعتماد على الحفظ الببغائي بدلاً من الفهم العميق والتحليل، مما يحد من القدرة على الابداع والابتكار. علاوة على ذلك، فأن ضعف التفكير النقدي يعيق القدرة على مواجهة التحديات المعقدة التي تواجه المجتمعات العربية، ويؤدي الى الاعتماد على الخبرات الأجنبية في حل المشكلات. ان الحلول المقترحة تتطلب إصلاحاً شاملاً للنظام التعليمي وبناء ثقافة تحفز على التفكير النقدي والابداع وتوفير بيئة محفزة للبحث العلمي والابتكار. فمن خلال تعزيز التفكير النقدي، يمكن للمجتمعات العربية ان تساهم بشكل فعال في بناء مستقبل افضل.
ضعف أنظمة التعليم:
ضعف انظمة التعليم في الدول العربية هو تحد متعدد الأوجه. فبالإضافة إلى التركيز على الحفظ والتلقين بدلا من التفكير النقدي والابداع، تعاني هذه الأنظمة من نقص حاد في الكوادر التعليمية المؤهلة، ومناهج دراسية تقليدية عتيقة لا تواكب متطلبات العصر. تتجلى هذه المشكلة بوضوح في غياب المختبرات العلمية المجهزة والأدوات التعليمية الحديثة، مما يحرم الطلاب من فرص التعلم العملي واكتشاف قدراتهم. كما ان الاعتماد الكبير على الامتحانات النمطية التي تقيس قدرة الطلاب على الحفظ يؤدي إلى تقييد التفكير الإبداعي لديهم، ويجعلهم يركزون على حفظ المعلومات بدلا من فهمها وتطبيقها.
بالاضافة الى ذلك، تعاني انظمة التعليم العربية من افتقار الى التنوع في المناهج الدراسية، حيث تفتقر هذه المناهج الى المواد التي تشجع على التعلم الذاتي والبحث المستقل. كما ان البنية التحتية للمدارس في العديد من الدول العربية متردية، مع وجود مباني متهالكة ونقص في المرافق الصحية والمكتبات المجهزة. هذا يؤثر سلبًا على بيئة التعلم ويقلل من حماس الطلاب.
ومن المشاكل الأخرى التي تواجه انظمة التعليم العربية غياب التقييم المستمر للطلاب والمعلمين، والاعتماد الكبير على الامتحانات النهائية كأداة وحيدة للتقييم. هذا النظام التقليدي لا يسمح بتحديد نقاط الضعف لدى الطلاب وتقديم الدعم اللازم لهم في الوقت المناسب. كما انه لا يشجع المعلمين على تطوير ادائهم وتحسين طرق تدريسهم.
اضف الى ذلك ضعف الاهتمام بالتعليم المهني والتقني في العديد من الدول العربية، حيث يركز التعليم بشكل أكبر على الشهادات الأكاديمية النظرية، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الخريجين وعدم قدرتهم على تلبية احتياجات سوق العمل. كما ان تأثير التوجهات السياسية والاجتماعية على المناهج الدراسية يؤدي إلى تسييس التعليم وتضمينه بأفكار وأيديولوجيات معينة، مما يبعده عن هدفه الأساسي وهو تنمية قدرات الطلاب ومهاراتهم.
كل هذه العوامل مجتمعة تساهم في انتاج أجيال من الخريجين غير مؤهلين لسوق العمل، وهو ما يعيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية.
الفساد المالي والاداري:
من بين هذه الأسباب المهمة للتخلف التكنولوجي، يبرز الفساد المالي والإداري كعامل مؤثر. يشمل الفساد المالي والاداري استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب شخصية ويؤدي إلى نقص الموارد المخصصة للبحث والتطوير و يؤثر على توجيه الاستثمارات والخدمات في البنية التحتية ويؤدي إلى تحويل الأهداف العامة للمؤسسات إلى أهداف شخصية.
الاقدمية في الانظمة البيروقراطية:
ان تكريس مبدأ الأقدمية في المؤسسات الجامعية والتقنية، التي تتطلب حيوية ومرونة، هو مسألة كارثية. بينما يحلم الشباب ذوي الافكار الابداعية بأن يساهموا في بناء مستقبل أفضل لوطنهم، وأن يستغلوا طاقاتهم وإبداعاتهم في خدمة مجتمعهم نجد نظام الأقدمية الجامد يحرمهم من هذه الفرصة، ويجعلهم يشعرون بالاحباط واليأس. فكيف يمكن لشاب مبدع وطموح أن يحقق أحلامه في ظل نظام بيروقراطي يفضل الخبرة الموروثة على الكفاءة الحقيقية؟ هذا الظلم يهدد مستقبل الاجيال القادمة، ويحرم البلاد من الاستفادة من عقول الشباب المبدعة.
استراتيجيات مكافحة التخلف العلمي والتكنولوجي:
للتغلب على التخلف العلمي والتكنولوجي في الدول العربية وتحقيق نهضة علمية حقيقية، لابد من اتخاذ الخطوات الجدية التالية:
1.زيادة الاستثمار في البحث العلمي، وتخصيص نسبة معقولة من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي، وتوفير الموارد المالية والبشرية والبنية التحتية اللازمة للبحث العلمي، وتشجيع التعاون العلمي بين الدول العربية والدول المتقدمة.
2.إصلاح أنظمة التعليم، وتطوير المناهج الدراسية، وتحديث الأساليب التعليمية، وتأهيل الكوادر التعليمية، وتعزيز التفكير النقدي والإبداع لدى الطلاب، وتوفير فرص التعليم المستمر والتعليم عن بعد.
3.اصلاح الانظمة السياسية، وضمان الحريات والحقوق لخلق مجتمعات حرة وديمقراطية، وتحقيق الاستقرار السياسي في الدول العربية، والقضاء على الفساد والمحسوبية، وتعزيز الحوكمة والمساءلة والشفافية في إدارة الشؤون العامة.
4.تشجيع الابتكار والإبداع، وخلق بيئة ثقافية داعمة للعلوم خلق بيئة ثقافية داعمة للعلوم والتكنولوجيا، وتعزيز الثقة بالذات والطموح لدى الشباب العربي، والاستفادة من التراث العلمي العربي والإسلامي، والفصل بين الدين والعلم، وتنمية روح الحوار والنقد البناء واحترام الرأي الآخر.
5.تمكين المرأة لغرض مشاركتها في المجالات العلمية والتكنولوجية، والقضاء على العوائق الاجتماعية والثقافية والتعليمية التي تعيق تقدمها وتفوقها في هذه المجالات، وتوفير فرص التعليم والتدريب والتوظيف للمرأة العربية.
6.نشر الوعي بأهمية العلوم والتكنولوجيا في المجتمع العربي، وتقدير العلماء والمبتكرين والمخترعين، وتشجيع المواهب والمهارات العلمية والتكنولوجية، وتكريم الإنجازات العلمية والتكنولوجية العربية.
ختاماً، يعد التغلب على التخلف العلمي والتكنولوجي في الدول العربية هدفا استراتيجيا يتطلب مسؤولية الجميع، من حكومات ومؤسسات تعليمية ومجتمع مدني. ولا بد من العمل الجاد وتضافر الجهود من أجل تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي في الدول العربية، والارتقاء بمكانتها على الساحة العالمية. وهذا لا يتحقق الا بالايمان وبالالتزام بالعلم والتكنولوجيا كمنهج حياة وأسلوب تفكير ومصدر قوة واعتزاز.
-* بروفسور متمرس ومستشار مهتم بالتعليم والعلوم والتكنولوجيا، جامعة دبلن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الأنواء الجوية: ارتفاع في درجات الحرارة الاسبوع الحالي

الكويت تنفي تدهور الحالة الصحية لسلمان الخالدي الذي تسلمته من العراق

ترامب: نريد 50% من ملكية تطبيق تيك توك

القوانين الجدلية على جدول أعمال البرلمان يوم غد الثلاثاء

هل أخطأ البرلمان بعدم حل نفسه مبكراً؟

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

العمود الثامن: دولة العشائر

العمود الثامن: خواطر من بلاد العمل

إشكاليات المثقف بعد التغيير

العمود الثامن: لجنة المرأة تحارب النساء

العمود الثامن: لجنة المرأة تحارب النساء

 علي حسين قبل خمسين عاما بالتمام والكمال رحلت عن عالمنا سيدة اسمها صبيحة الشيخ داود ، كانت اول امرأة تدخل كلية الحقوق ، رغم مطالبات المجتمع آنذاك ان تجلس في البيت فهي ابنة...
علي حسين

باليت المدى: تماثيل القرية النائمة

 ستار كاووش هل تخيلتَ أن تعيش بعض الوقت بين مجموعة من التماثيل؟ تتجول بينها وتتحاور معها بإنتظار إجاباتها حول أسئلتكَ وإشارات يديك! وفوق هذا تستجيب لحركتها وكأنك بين أصدقائك ومعارفك. يالها من أمنية...
ستار كاووش

أسباب تخلف العالم العربي في العلوم والتكنولوجيا

محمد الربيعي* في زمن تتسارع فيه الابتكارات العلمية والتكنولوجية بشكل غير مسبوق، نجد ان الدول العربية لا تزال تواجه تحديات كبيرة في هذا المجال، مما يؤثر سلبا على واقعها ومستقبلها. فالدول العربية ليس لها...
د. محمد الربيعي

المعاهدة الروسية – الإيرانية: تؤسس لنقلة نوعية في علاقات البلدين

د. فالح الحمـراني وقع الرئيسان فلاديمير بوتين ومسعود بيزشكيان اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران في 17 كانون الثاني في الكرملين. وجاء توقيع الاتفاقية نتيجة الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الإيراني إلى...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram