علي بدر
في مدينة تتلألأ أنوارها كما لو أنها ترفض النوم، وفي زمن حيث كانت النجومية فيها تعني الخلود، ولدت واحدة من أغرب وأعنف قصص الحب التي عرفتها هوليوود. هناك، في المكاتب الفاخرة واستوديوهات السينما المزينة بالأضواء، حيث يختلط البريق بالظل، التقى هوارد هيوز، الرجل الذي يشتري السماء بطائراته، بجان هارلو، النجمة البلاتينية التي تضيء الشاشة وكأنها تسرق وهج النجوم. كان لقاؤهما أشبه بلحظة ارتطام مجرتين، الضوء يلتف حول الظلام، والهدوء يسبق عاصفة لم تشهد هوليوود مثلها.
هوارد، بعينيه الحادتين اللتين تخترقان المسافات، أشبه بمخترع لا يعرف سوى السيطرة، يرى العالم كأنه ملك خاص به، وكل من حوله مجرد أدوات في مختبره الكبير. يتحدث بصوت بارد، بنبرة لا تعرف التردد، وكأن كلماته تأمر السماء أن تمطر. أما جان، بشعرها البلاتيني المشرق وضحكتها التي تشبه عزف البيانو في قاعة فارغة، تجسد الحلم الهوليوودي. لم تكن مجرد نجمة؛ بل مرآة تعكس كل ما أراده هوارد من العالم: الجمال، القوة، والخلود.
بيد أن هوارد لم يكن يبحث عن شريكة في الحياة، بل قطعة من عالمه الخاص، جوهرة يريد أن يخفيها عن أعين الآخرين. ينظر إلى جان كما ينظر المهندس إلى تحفته؛ معجبًا، مهووسًا، وخائفًا من أن يلمسها أحد. أراد أن يجعلها مركز كونه، أن يحيطها بسماء من الزجاج لا تنكسر، أن يربطها بعالمه حيث لا مكان لأي شخص آخر.
أما جان، فقد كانت تلمح ذلك الجنون في عينيه. ترى في نظرته حبًا لا يشبه الحب، رغبة في التملك تخنق الهواء حولها. بيد أنها في تلك اللحظة الأولى، لم تكن تعرف إلى أي مدى يمكن أن يأخذها هذا الحب، أو إلى أي مدى يمكن أن يسحبها إلى أعماقه، حيث يصبح الضوء مجرد وهج خافت في عالم من الظلال.
كانت علاقتهما منذ البداية أشبه برقصة؛ خطوة للأمام، وخطوتين للخلف. لم يكن هوارد يتحدث عن الحب، بل عن الملكية. ولم تكن جان تبحث عن الحماية، بل عن الحرية. لكن وسط كل ذلك، ثمة شغف يشعل الأجواء من حولهما، شغف لا يعرف الاعتدال، مثل نيران مستعرة لا تهدأ.
في البداية، بدت الحياة وكأنها تنساب كحلم بلاتيني، حيث كان هوارد يغرق جان بهدايا تُشبه الأساطير. كانت طائرته الخاصة أول هدية كبرى، لكنها لم تكن مجرد وسيلة نقل؛ بل قصرًا طائرًا، مزخرفًا بأفخم الأثاث ومقاعد مُبطنة بالحرير وتحمل أحرف اسمها الأولى بخيوط ذهبية. عندما أشار إليها وهي تقف مذهولة أمام بريق الطائرة، قال بصوت هادئ، يحمل نبرة المنتصر: "أريدك أن تشعري بأنك تحلقين معي دائمًا، حتى لو كنا بعيدين عن بعضنا."
جان التي اعتادت على الهدايا، ابتسمت، لكنها شعرت بثقل هذه الطائرة. لم تكن مجرد هدية، بل إعلانًا عن رغبة هوارد في السيطرة، في إحاطتها بعالمه الخاص، حيث يكون كل شيء مرسومًا حسب إرادته.
هدايا تكبل الحرية
وفي أحد الأيام، قدم لها هدية أخرى، عقدًا من الألماس، أخذ يتلألأ تحت أضواء العشاء الفاخر كما لو أنه يحمل سماء الليل بأكملها. لكنه لم يكن مجرد قطعة مجوهرات. في مركز العقد، ثمة قفل صغير، تحفة فنية لا يُفتح إلا بمفتاح واحد يحمله هوارد. نظرت إليه جان وهي تمسك العقد بين أصابعها، محاولة فهم المغزى. "إنه جميل، بيد أن أشبه بقيد،" قالت بهدوء، حينها كان صوتها يحمل مزيجًا من الإعجاب والقلق.
ضحك هوارد ضحكته المميزة، تلك الضحكة التي تحمل في طياتها شيئًا من البرود والغموض، وقال: "إنه ليس قيدًا، يا عزيزتي، إنه حمايتي لك. لا أريد أي شيء أن يمسك بكِ أو يقترب منكِ." لكن جان شعرت بشيء أعمق، وكأن هذا القفل لم يكن لحمايتها من الآخرين بقدر ما كان لإبعادها عن نفسها، عن حريتها.
مع كل هدية، شعرت جان أن هوارد يحاول تشكيلها كما يشاء، كأنه يعيد صياغة هويتها لتتناسب مع صورته المثالية. الطائرة، العقد، السيارات الفاخرة، كلها كانت تُزين حياتها، لكنها في الوقت نفسه كانت تُثقل خطواتها، تُقيد حركتها. كانت تعرف أن الحب الذي يقدمه هوارد ليس حرية، بل شبكة من الذهب، تلمع من الخارج لكنها تضيق من الداخل.
في تلك اللحظات، لم تكن الهدايا مجرد بريق بل رموزًا لرغبة رجل يرفض أن يرى محبوبته إلا كجزء من عالمه، وكأنها ملكية ثمينة يخشى أن يفقدها، وكأن حبها لا يُثبت إلا بحجم الحواجز التي يبنيها حولها.
الحب الذي تحول إلى مراقبة
لكن الحب الذي بدأ بوعود الحماية سرعان ما تحول إلى هوس خانق، كأنه شبكة لا تترك متنفسًا. كان هوارد يرى العالم من حول جان كخطر دائم، أشبه بغابة مليئة بالذئاب التي تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض عليها. لم يكن وجود الحراس الشخصيين حولها مجرد حماية، بل عيونًا تراقب كل تحركاتها، تُحصي أنفاسها، وتتابع كل كلمة تتفوه بها. كان هوارد يشك في كل شيء: في نظرة عابرة، في ضحكة غير مقصودة، في محادثة قصيرة مع أي رجل، حتى لو كان زميلًا في العمل.
فالخوف من فقدانها يلتهمه من الداخل، خوف أشبه بمرض مزمن لا علاج له. فيُرسل الحراس، لكنهم لم يكونوا دروعًا فقط؛ كانوا أجنحته الخفية، يرصدونها، يوصلون له تقارير تفصيلية عن يومها. أراد أن يعرف كل شيء، من أصغر تفاصيلها اليومية إلى أفكارها التي لم تُنطق بعد.
وفي ليلة من الليالي، شعرت جان بالاختناق. الهواء الذي تتنفسه صار ثقيلًا، الجدران من حولها بدأت تضيق. أرادت الهروب للحظات قليلة، ولو من نفسها، فذهبت إلى منزل صديقتها دون أن تخبر هوارد. أخيرًا شعرت وكأنها استردت جزءًا من حريتها المسلوبة. بيد أنها لم تكن تعلم أن غيابها سيُشعل في هوارد جنونًا جديدًا.
عندما اكتشف الأمر، لم يرسل رسائل نصية، ولم يُجر اتصالًا غاضبًا. بل اختار وسيلة تعكس هوسه: أرسل طائرة صغيرة لتحوم فوق منزل صديقتها. كانت الطائرة تدور ببطء، وكأنها عين ضخمة تراقب من السماء. كان صوتها يُسمع في كل أرجاء المنزل، مثل همس يقول: "أينما تذهبين، أنا أراك."
عادت جان في تلك الليلة إلى المنزل لتجده ينتظرها، واقفًا في الظل، نظراته مزيج من الغضب والبرودة الجليدية. لم يقل شيئًا في البداية. كان الصمت أثقل من أي كلمات. ثم اقترب منها وقال بصوت منخفض، يكاد يكون همسًا: "أين كنتِ؟" نظرت إليه بعينين مليئتين بالإرهاق وقالت: "أردت لحظة أن أختلي بنفسي، هوارد. لحظة فقط."
لكن هوارد لم يكن يسمع. كاد الغضب أن يعميه، والخوف أن ينهشه. "لحظة لنفسك؟ هل تعرفين ماذا يعني ذلك؟ العالم لا ينتظر سوى لحظة واحدة ليأخذك مني!" صوته ارتفع، ويداه ارتعشتا قليلاً، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه المصطنع.
قالت له بصوت ثابت يحمل في طياته خيبة أمل مريرة: "أنت لا تحبني يا هوارد. أنت فقط تحب أن تسيطر علي." كانت كلماتها مثل خنجر، لكنها لم تكن خنجرًا في قلبه، بل في كبريائه. نظر إليها بحدة، وقال بحدة أكبر: "أنا لا أسيطر. أنا أحميك. أحميك من العالم ومن نفسك. أنتِ لا تعرفين كيف يمكن أن يؤذيك العالم."
بيد أنها لم تعد تصدق. هو يحميها، نعم، بيد أنه يحميها من الحرية نفسها، من الهواء الذي تحتاجه لتعيش، من النور الذي يمنحها الحياة. في تلك الليلة، شعرت جان أنها لم تعد نجمة بريقها يملأ الشاشة، بل قمرًا محبوسًا في مدار هوارد، يدور حوله بلا نهاية، بلا أمل في الانفلات.
غيرة قاتلة
كانت غيرة هوارد بلا حدود. بلا سقف، بلا نهاية، بلا فرامل. غيرة تتصاعد في صدره كعاصفة لا تهدأ، تلتهم كل شيء، حتى لحظات الفرح البريئة. في إحدى الحفلات الفاخرة، حيث كانت الأضواء تُلقي بظلال ذهبية على وجوه الحاضرين، رآها. رآها واقفة هناك، جميلة كما لو أن البلاتين نفسه قد تشكل ليصبح امرأة. رآها تضحك، تلك الضحكة التي يعرفها جيدًا، لكنها لم تكن له هذه المرة. كانت لرجل آخر، لممثل شاب كان يعمل معها في فيلم جديد.
رآها تبتسم، وكانت تلك الابتسامة كطعنة في كبريائه. رآها تميل برأسها قليلاً، وكأنها تسمح لذلك الرجل بالدخول إلى عالمها الذي كان يجب أن يظل مغلقًا إلا له. كانت تلك الضحكات عفوية، لكن هوارد لم يرَ فيها سوى خيانة. خيانة للاتفاق غير المعلن بينهما، خيانة لتلك الحدود التي رسمها لها بعناية.
اقترب منها، كظل ثقيل يحجب نورها، اقترب وهمس في أذنها، وصوته مشبع بالغضب المكبوت: "تذكري أنكِ لي وحدي." كانت كلماته تخرج بطيئة، كل واحدة منها تحمل ثقل عالمه الذي لا يعرف سوى الامتلاك.
التفتت إليه جان ببطء، وكأنها تستجمع قواها، نظرت إليه نظرة لم تكن غاضبة، بل حزينة، نظرة امرأة تدرك أنها محاصرة. قالت بصوت هادئ، لكنه يحمل في أعماقه تمردًا دفينًا: "أنا لست ملكًا لأحد، ولا حتى لك، هوارد."
كانت كلماتها كسهم شق طريقه إلى أعماق روحه. يملك هوارد الطائرات، المدن، الأحلام، لكنه أدرك فجأة أنه لا يملكها. لا يملك تلك الروح الحرة التي لا يمكن السيطرة عليها، تلك الضحكات التي تهرب منه، تلك النظرات التي تتجاوز حدود عالمه.
لم يكن هوارد مستعدًا للاستسلام. غيرة بلا حدود لا تُشفى بكلمات بسيطة، بل تتحول إلى نار تأكل ما تبقى من الحب، وتترك خلفها رمادًا يحاول أن يتشكل من جديد. في تلك اللحظة، في وسط الحفلة، حيث يرقص الجميع على أنغام الموسيقى، كانت معركتهما صامتة، لكنها أعنف من أي صخب. معركة بين رجل يرى الحب امتلاكًا، وامرأة ترى الحب حرية، وبينهما هوة تتسع مع كل همسة، مع كل نظرة، مع كل ضحكة.
هيوز وكاميرات التجسس
لم يكن هيوز يكتفي بالمراقبة المباشرة، ولم يكن يثق بعينيه أو حتى بالعيون العديدة التي وضعها حول جان. كان عقله المهووس يدفعه لاختراق كل زاوية من حياتها، ليس فقط بجسده، بل بروحه التي باتت حبيسة الهواجس. التكنولوجيا، أصبحت ملعبًا للإبداع والابتكار، تحولت إلى أداة في يده، سلاحًا يستخدمه ليحصن عالمه منها، أو ليحاصرها فيه.
في إحدى ليالي جنونه، قرر هيوز أن يذهب أبعد مما قد يتخيله أي عاشق. جلب كاميرات صغيرة، دقيقة مثل نقاط الضوء، وزرعها في زوايا منزلها. كاميرات لم تكن ترى فقط، بل تسجل كل حركة، كل همسة، كل عبور في ذلك المكان الذي كان يفترض أن يكون ملاذها الخاص. لم يكن الأمر مجرد مراقبة؛ كان استحواذًا. فهو يريد أن يكون حاضرًا حتى في غيابه، أن يكون ظلًا يلاحقها حتى عندما تظن أنها وحدها.
بيد أن الأسرار لا تبقى مدفونة طويلاً. اكتشفت جان ما فعله عندما لمست إحدى تلك الكاميرات مصادفة أثناء تنظيف مكتبها. تلك اللحظة أصبحت أشبه بكشف النقاب عن حقيقة قبيحة، حقيقة حب لم يكن حبًا بقدر ما كان هوسًا يقتات على روحها.
واجهته في تلك الليلة، وعيناها تلتمعان بالغضب والخذلان. صرخت فيه: "كيف تجرؤ؟ كيف تجعل من منزلي سجنًا آخر؟ إذا كنت لا تثق بي، لماذا نبقى معًا؟" شعر بأن كلماتها مثل صاعقة، لكنها بالنسبة له كانت مجرد اعتراض آخر يجب أن يجد له مبررًا.
نظر إليها ببرود، حاول أن يخفف حدة صوته، ليبدو وكأنه يتحدث بحب، وقال: "أنا لا أثق بالعالم من حولك، جان. العالم قاسٍ، مخادع، ولا يرحم. أنا أثق بك، لكني لا أثق بهم."
السماء ليست حدودًا: قصة هوارد هيوز وجان هارلو
جنون الحب في هوليوود
نشر في: 20 يناير, 2025: 12:02 ص