TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: تماثيل القرية النائمة

باليت المدى: تماثيل القرية النائمة

نشر في: 20 يناير, 2025: 12:04 ص

 ستار كاووش

هل تخيلتَ أن تعيش بعض الوقت بين مجموعة من التماثيل؟ تتجول بينها وتتحاور معها بإنتظار إجاباتها حول أسئلتكَ وإشارات يديك! وفوق هذا تستجيب لحركتها وكأنك بين أصدقائك ومعارفك. يالها من أمنية تبدو غريبة وبعيدة المنال، لكني مع ذلك حاولتُ أن أفعلها وأحولها الى حقيقة في مدينة فيينا التي لا يمكن التحرر من سطوة تماثيلها الجميلة التي تملأ المنعطفات، الشوارع، الزوايا، الساحات والحدائق، وحتى واجهات المباني، حيث تواجهك التماثيل بحركاتها الجذابة، عنفوان إيماءاتها، قوة حضورها، المواد التي نُفِّذَتْ بها وبالتأكيد اللمسات الابداعية التي أَودَعها الفنانون على ملامحها، وهذا ما جعلها خالدة على مَرِّ العصور. ومناسبة هذا الحديث هو تجولي اليوم بين أرجاء حديقة قصر شين برون ذات المساحة الواسعة والفناءات المفتوحة المليئة بالأعمال الفنية والتماثيل والنافورات الضخمة، حيث يحتاج المرء لساعات طويلة جداً كي يرى جانب صغير من هذه التفاصيل، في هذا المكان الذي يشبه قرية سحرية وسط مدينة فيينا. وهذه الحديقة كانت تابعة لقصر سيسي وزوجها القيصر فرانز يوسف.
قضيتُ يوماً كاملاً أضع يدى على هذا الوجه الحجري وإتحسسُ هذه اليد البرونزية، أتوقف أمام هذه الإلتفاتة الأخاذة لامرأة من المرمر وتشدني حركة عاشقان يلتصقان مع بعضهما محولين الرخام الى حياة وروح وحقيقة. كيف لي أن أخرج من هذا السحر، وهل يمكنني ترك هذا المكان الذي تَلِّفُهُ الفتنة؟ بعد جولة طويلة، فكرتُ بالخروج وقررتُ الإلتفاف نحو الجانب الأيمن للحديقة، ثم أتوجه من هناك نحو البوابة الخارجية التي مازالت تبعد عني كيلومترين تقريباً. لكني ما أن مضيت بضع خطوات هناك، حتى ظهر أمامي كالسحر، صفاً من التماثيل العظيمة! يا إلهي، إثنان وثلاثون تمثالاً تنتصب في خط واحد وتمنح المكان الكثير من الهيبة والغموض، وفوق كل هذا، فأن هذه التماثيل مصنوعة بعناية مذهلة وكأنها خرجت تواً من قرية أغريقية نائمة وسط الأساطير. يا لهذا الكنز من التماثيل التي لو وُزِعَتْ في دولة لغطت كل مدنها، فما بالك بأنها جزء من حديقة واحدة وسط هذه المدينة الساحرة. فما حكاية هذه التماثيل وكيف جاءت الى هنا ومن قام بصفها بهذه الطريقة التي
تشبه إحدى المراسيم أو الاحتفالات القديمة؟
أنجزت هذه التماثيل سنة 1777 بالتعاون بين النحات والمعماري ومصمم الحدائق يوهان هيتزيندورف ومجموعة من النحاتين، وهي تمثل شخصيات تاريخية وأسطورية، وعددها أثنان وثلاثون تمثالاً متساوية الإرتفاع وتنتصب على قواعد عالية.
بدأتُ بتمثال العذراء الفستالية بفستاها الطويل وهي تمسك بإحدى يديها شعلة تحاول حماية لهبها بيدها الأخرى، ملتفتة كأنها بإنتظار إشارة للبدء بمهمتها، وهي من ضمن العذراوات المسؤولات عن النار في معبد فيستا. وعلى مقربة منها ظهر تمثال أمفيون أو عازف الموسيقـى، وهو ابن إنتيوب بعد أن إغتصبها زيوس. ينشغل أمفيون بالعزف على آلة الهاربْ، شارد الذهن، وربما كان يستعيد الفترة التي كان فيها مستعبداً عند ليكوس الذي عاملة بقسوة شديدة.
مضيت قليلاً، فظهر أمامي تمثال أنجيرونا التي تُعتبر إلهة الألم، كذلك هي إلهة الصمت التي دخلت الى روما لمنع كشف إسم روما السري. تركت انجيرونا فإستقبلني تمثال باريس الذي جعله النحات ممسكاً بثمرة كبيرة بيدة، فيما تتهدل ثيابه دون اهتمام، وباريس هو ابن بريام ملك طروادة، والذي وقع في غرام هيلين ملكة اسبرطه وهربا معاً، وكان هذا أحد أساب حرب طروادة. وباريس هو الذي أصابَ أخيل بجرح قاتل في كعبة. أكملتُ جولتي بين التماثيل، فظهر لي تمثال برسيوس الذي هو ابن زيوس أيضاً، وهو بطل أغريقي وقام بقتل الوحش البحري سيتوس، ويظهره برسيوس هنا ماسكاً رأس ميدوزا الذي قطعه، والذي تكسوه الثعابين. وما تركتُ رأس ميدوزا معلقاً بيد برسيوس، حتى بان لي تمثال مليجر واضعاً يده على خصره ومتكئاً على بقايا بيت، وكأنه يفكر بتدمير مملكة كاليدون جراء عدم تقديم والده ذبيحة للآلهة. وبعد قليل يطل تمثال كاليوبي وهي تمسك بيديها كتاباً أو مخطوطة، وهي ملهمة الشعر الملحمي وابنة زيوس، وقد ألهمت هوميروس بكتابة الأوديسة والالياذة. تركتُ الشعر بين يَدَي كاليوبي ومضيتُ في طريقي نحو تمثال سينسياتوس الذي كان يحني جسده واضعاً قدمه على آلة حربية، فهو كان رجل دولة وقائداً عسكرياً رومانياً، وهو يتميز بالكثير من الفضائل وفي مقدمتها الرجولة والبأس والدعوة للمدنية.
كان عليَّ إكمال طريقي بين التماثيل، وهكذا وصلتُ الى هيجيا التي تمسك إناءً صغيراً وأفعى، وهي إلهة النظافة والصحة، وإبنة اسكليبيوس إله الشفاء. ولم أكد أخطو بضع خطوات حتى إنبثقَ من بين الأشجار تمثال سكيفولا، بشعره المجعد. كان مختبئاً وكأنه يعيد حادث دخوله الى معسكر اعداءه ومحاولته قتل الملك لارس. وعند القبض عليه وضع يده في النار لإثبات شجاعته وتحمله، فأُعجب به الملك وضمه الى جيشه. هكذا مضيتُ وسط هذه التماثيل العديدة التي لا تريد أن تنتهي.
وفي النهاية كان عليَّ التوقف تحت ظلال تمثال كيونتوس الذي كان سياسياً وجنرالاً رومانياً، وكان يمتميز بالخطط والتكتيكات التي يستخدمها أثناء الحروب. ويعتبر مبتكر حرب العصابات التي كان يكسر من خلالها خطوط العدو الذي يتفوق عليه عددياً. بقيتُ قليلاً بجانب تمثال كيونتوس متأملاً ضوء الشمس الذي إنعكس على نصف مساحة القصر، فيما غيمة صغيرة وبعيدة بانتْ وسط زرقة السماء ثم إختفتْ خلف تمثال كيونتوس الذي كان يميل رأسه نحوي واضعاً يده على ذقنه، شارداً وكأنه يفكر بخطة حربية جديدة.
بعد هذه الجولة وسط تماثيل تختلط فيها الأسطورة والتاريخ ومعنى الفن، ودعتُ أصدقائي التماثيل وتركتهم يحرسون الحديقة ويعيدون تأثيث جمالها، وإتجهتُ نحو بوابة القصر التي بدت لي أبعد مما هي عليه. وما أن اجتزتها حتى شعرتُ بأني قد إنتقلتُ من زمن الى آخر، فأكملتُ طريقي حتى غبتُ وسط زحام الناس.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: تعريف المواطنة

العمود الثامن: حسقيل يرثي حالنا

مكرم الطَّالبانيّ: المخضرم السّياسيّ الأخير

معارك إيلون ماسك .. الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) نموذجاً

العراق والشيزوفرينيا السياسية تجاه سوريا

العمود الثامن: جوبز ولعبة التصريحات

 علي حسين أراد العراقيون بعد عام 2003 ان يعيشوا الحرية التي حلموا بها منذ عقود ، لكن السياسيين وجدوا حلولا تلغي فيها احلام المواطن العراقي لتسود احزاب المصالح والمنافع . قرر الساسة الكرام...
علي حسين

إيران في حسابات ترامب

د. فالح الحمـــراني قبل أيام قليلة من احتفال إيران بعيد، الثورة المصادف في في 4 فبراير جدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بموجب مرسومه سياسة "الضغط الأقصى" على إيران. والهدف منها هو منع إيران من...
د. فالح الحمراني

من الفكر الأخلاقي عند السيد حسين الصدر

غالب حسن الشابندر تحتل القضية الاخلاقية مكانة قصوى في اهتمامات السيد حسين إسماعيل الصدر، فالرجل لا يكاد يطرق قضية في مسائل الاجتاع والحقوق والواجبات والمواطنة حتى نجد للاخلاق مساحة كبيرة في طرحه أو طروحاته...
غالب حسن الشابندر

رئاسة بولندا للاتحاد الأوروبي: هل تكون مثالا لأوروبا؟

لويز ألميراس ترجمة: عدوية الهلالي بعد نزاع دام سبع سنوات مع بروكسل،تولت بولندا رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي تحت رعاية طيبة وأصبحت اليوم دولة رائدة في أوروبا. ولاتخيفها برلين، ولا بروكسل، ولا حتى موسكو. لقد...
لويز ألميراس
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram