حيدر سعيد1تحمل الصورة معها عذابها، تحمل تاريخنا المعذب في طياتها، حين لم يكن هذا التاريخ وكل تاريخ سوى مجموعة صوراً.. السير والحكايات والذكريات والأساطير والانطباعات وأفلام المناسبات الشخصية والأرشيف والصور الفوتوغرافية والطوائف والجماعات والبدايات والنهايات.
صورة معذبة باطراد، لأنها تريد ان تقبض على اللحظات الهاربة من التاريخ وتعطيها (معنى)، في عالم تنظمه المعاني. ولم تكن اللغة، واسطة المعنى الأساسية إلاّ شكلاً من أشكال التصوير،.. تصوير. في مبتدئه. التاريخ الكائنات والموجودات وهي في طريقها إلى الزوال.2كيف يمكن أن أشكل صورة صديق ما(وشاعر بالأحرى)، كيف لي أن أشكله بالمعاني والقيم والعبارة، ليستقيم لي حفظه، لأتمكن من لحظته الهاربة، الشاردة بعيداً، والمخلفة فينا ذهولاً، ونحن ننظر في أفق التاريخ ومفاصله ومنعطفاته، كيف لي أن أشكل صورة رعد عبد القادر، صديقي الشاعر الراحل، وأقبض على هروبه.ها أنا ذا أجد نفسي في نقطة القاع وهي تبصر بالمسافة الفاصلة بينه وبين السطح، ها أناa ذا أحدثكم عن رعد، عن ذكرياتي معه، وعن شعره، وعن حبي له، وعن أشياء أخرى، ثم ينتهي كل شيء، وتنفضّ هذه الجلسة، ونخرج إلى بيوتنا، ولا يبقى سوى عمّال التنظيف، يكنسون كلماتنا وعواطفنا وكسر عبراتنا.أن نكتب عن رحيل رعد عبد القادر يعني أن نكتب بإحدى طريقتين: كتابة في الرثاء أو أقرب إليه، بما يقتضيه الرثاء من بلاغة وفصاحة، أو كتابة في النقد الأدبي، تضع مسافة باردة، يسمونها(الموضوعية)، بينها وبين الموضوع الذي تكتب عنه. ولكن، كيف نكتب بموضوعية عن شيء شديد الذاتية، شيء يمتزج بالذاكرة والوجدان؟ كيف نكتب عن موت صديق؟ كيف نكتب عن رعد عبد القادر؟ كيف ننحّي شخصه لنتحدث، ببرود عن شعره؟تنتهي تراجيدياً الوجود البشري إلى آثار جامدة، ورق وحبر وصور وشواهد. هكذا، يختزل رعد عبد القادر إلى تلك العنوانات التي نرددها: جوائز السنة الكبيسة، دع البلبل يتعجب، أوبرا الأميرة الضائعة، صقر فوق رأسه شمس، هكذا تفنى عذاباته وأحلامه وسعاداته وعشقه وقلقه ومرحه وخوفه وأبوّته وصداقاته، هكذا تفنى في هذه العنوانات، هكذا يفنى وجهه في الكتب التي وضعها هو.rn4. هل اختار هو مثل هذه النهاية؟لقد كان رعد عبد القادر يتصرف على أساس إن مسؤولية الشاعر تقف عند لحظة الكتابة،أعظم اللحظات، وإذا كان لهذا المعتقد أن يستبطن شيئاً، فإنه يتضمن أن النشر لم يكن لديه همّاً ثانوياً فقط، بل لم يكن يدور في حساباته، ولذلك حقق سواه من الشعراء من مجايليه وغير مجايليه، عراقيين وعرباً، حضوراً وفّره النشر المنظم، في حين اكتفى هو بمساحة هي أضيق بكثير ممّا يستحق، وظل يعمل في مخطوطاته التي ظلت حبيسة أدراجه وأصدقائه، على تحديث للشعرية العربية، قد لا يقيض لنا أن ندركها إلاّ بعد حين، يصدق هذا الكلام في الأقل على ما أنجزه رعد في التسعينات، التي شهدت القصيدة العراقية في بداياتها تحولات بنيوية أساسية، كان رعد احد ابرز مهندسيها.rn5أفكر: هل ينبغي لنا أن نكتب عن أصدقائنا الذين يموتون؟ لماذا تبدو الكتابة عنهم كأنها كل ما نملك من وسائل تعبير؟ لماذا تبدو هذه الكتابة كأنها واجب أخلاقي، من دونها تضيع بصمة أحزاننا أمام التاريخ؟كتب، سابقاً، عن ثلاث ميتات لثلاثة كتّاب عراقيين، كان الموت مناسبة للكتابة، وكانت كتابة في الفكر، لا تتنكر لعنايتها بفصاحة الجملة، ولا لبراعة الاستدلال والتدرج المنطقي للأدلّة، وإن كان الموت قريباً بأدلته الصارخة: الفقدان والوجع والأسى.وها أنا ذا أكتب عن الموت مرة أخرى، أكتب عن رعد عبد القادر، صديقي، وكأنني لا أعي كل هذه الأسئلة، كأنني أريد أن أضع بصمة حزني عليه أمام التاريخ، كأنني أخشى إلاّ يطاوعني الوفاء لصديقي الميت إلا بهذه الكتابة، العصية والبعيدة المنال. ولكنني اكتب لأتأمل هذه الكتابة نفسها، لأتأمل قساوة أن نكتب عن أصدقائنا الذين يموتون.rn6الكتابة عن رعد عبد القادر عسيرة جداً، الدرجة التي فقدت معها فصاحة الجملة وبلاغة الفكرة ومنطقية الأدلة وتدرجاتها، ولم أملك إلاّ أن انثر شهقات الكتابة في نص ممزق، كنسيج، كهذا النص.كم كنت منخرطاً في تقاليد الرثاء تلك، لأقول: فيما بتُّ اسمّيه (نظام الرثاء في حياتنا الثقافية المعاصرة)، الذي يحدد تقاليد الحزن ويمنذجه في طقوس قاسية، تمتد من جلسات التأبين والاستذكار ولا تنتهي بنصوص الرثاء، والكتابة ركن أساسي في نظام الرثاء، يصبح فيها الموت، أو الميت بالأحرى،(موضوعاً) للكتابة وفرصة ومناسبة لها وإمكانية جديدة فيها، فإذا كانت الكتابة فعل تعقّل أصلاً وفعلاً بلاغياً(متعقلاً هو الآخر بما أنها تخضع موضوعاتها لسياقاتها من عناية وتقديم وتأخير وحذف وشطب ومراجعة)، فإن الموت الذي نكتب عنه، يصبح موتاً متعقلاً وبلاغياً.يكشف هذا عن الجوهر العقلاني لنظامنا في الرثاء، وأن الحزن الذي يقوم عليه هو حون معقلن.هكذا يتبدّى وجه الرثاء القبيح، ذاك الذي نمارسه ببرود(..ربما لأن الموت أصبح ميسوراً ومألوفاً وطبيعياً).ليس هذا النص في رثاء رعد عبد القادر، بل في هجاء عاداتنا في الرثاء، التي تجعل من الميت فرصة للكتابة وللحزن المعقلن المنمذج.فما زال موت رعد عبد القادر خارج حيّز معقوليتنا،
وجود مثلوم
نشر في: 8 فبراير, 2011: 04:27 م