عبد الزهرة زكييوم الثامن من كانون الثاني عام 2003، كان آخر يوم ألتقي فيه رعد عبد القادر.أثناء لعبنا الدومينو، سألته: ماذا عن السكري؟ كيف تشعر؟ ابتسم، وقال: لقد طمأنني الطبيب، وأشعر فعلاً أن وضعي يتحسن.كان رعد خلال عاميه الأخيرين غالباً ما يأتي من عيادة طبيبه إلى مقهى الجماهير..
وكنت كثيراً ما أتحاشى سؤاله عن النتائج..كنت أخشى سماع أخبار سيئة وأخشى عليه أن يبقيه مثل هذا السؤال في دوامة المرض.السؤال عن الشعر أكثر جدوى وقيمة خصوصاً أن رعد كان يكتب في العامين الأخيرين بشكل يومي تقريباً..في الفترة نفسها كنت أكتب (طغراء النور والماء)..كنت أحتاج إلى أن أقرأ جديده بقدر حاجتي إلى سماع رأيه وملاحظاته في النصوص التي أنجزها من الطغراء الذي لم أجد حين قررت طبعه ما أشرف به الكتاب سوى إهدائه إلى رعد عبد القادر الذي اطلع على الجزء الأهم من العمل الأول في الكتاب (نهار عباسي) وعلى جانب من العمل الثاني فيه (رواية الهدهد).في هذين العامين أنجز رعد (صقر فوق رأسه شمس)..مجموعة كبيرة في قيمتها وفي عدد نصوصها التي أنجزت بالكامل في غضون شهرين تقريبا..وكنت أفكر بصمت أن رعد يريد أن يستبق الموت بهذه الغزارة وبهذا التدفق الشعري الذي لا يتأتى إلا لشاعر كبير، وكان رعد عبد القادر شاعراً فذاً كبيراً..لقد كانت نصوص الصقر مثل حياة رعد..نصوص تتوالى فيها الجمل والصور وتتسابق مثل نيازك تمر خاطفة ثم لا تلبث أن تنطفئ وتموت في ظلام.كانت هذه أعظم سنوات رعد في الشعر..لكنها أسوأ سنواته في الحياة..كانت سعادة العمل في الشعر والإنجاز به تخفف من تعاسة أيام ترمي بقسوتها عليه.كان التوازن صعباً ومستحيلاً، لكن رعد، بإشراقه الحي، كان دائما ما يميل فيرجح كفة سعادة الشعر..وكنت أنظر في هذا الحطام الذي يتراكم في الأعماق، أعماق شاعر شجاع.لقد حسم أمره من قبل السلطة على أنه شاعر معارض لا فائدة ترتجى منه..فيما بدأ جسده الفتي ومحياه الجميل يذويان شيئا فشيئا تحت ضربات المرض الذي لا يرتجى لمن يكون ضحيته شيء.لم تكن بيننا أسرار، كنت أعرف اعتمال امتزاج الخوف من السلطة بمشاعر كبرياء المعارض في ذات رعد وهو يبوح لي بتمزق في داخله بين الاستجابة لنداء شقيق له في عمان بالمغادرة والتحرر من الحال الذي فيه، وبين رغبته هو في البقاء في البلد والوقوف على مصير السلطة والبلد والناس الذين ينتظرون حرباً متوقعة الحدوث في كل حين..شخصياً اقترحت عليه أن يغادر، وان يعتزل الجميع في عمان، ما دامت أسرته ستبقى في بغداد وما دامت بغداد على وشك مواجهة المصير.قلت هو وقت لكتابة الشعر وللعلاج من المرض..قال لي: ولماذا ما دمت أكتب بهذه الحرية..وما دام المرض يتراجع ولا أثر له.وقبل أن نفترق في اليوم الأخير، يوم الثامن من كانون الثاني، عرض علي أن أبحث له عن بيت للإيجار في حي أور، حيث أقيم، قال إن الحرب ستبدأ وأتوقع معارك أو قصفاً شديداً في الغزالية التي يقيم فيها..أجبته: لا تقلق، سيكون بيتانا لكلينا حسب الموقف في منطقة أي منا..اتفقنا على هذا الأمر..وواصلنا لعبة الدومينو.في هذه السنوات تعلمنا لعبة الدومينو، وكان من أغرب المشاهد أن تجد يومياً في مقهى الجماهير حلقة من الأربعة: سهيل سامي نادر ورعد عبد القادر وقاسم محمد عباس وأنا، وينضم للحلقة أصدقاء آخرون، كان بينهم علي بدر وصفاء صنكور ومحمد الغزي، فيما كان آخرون يأتون من حلقات أخرى فينضموا إلى الحلقة الصامتة..لقد كانت الحلقة صامتة فعلاً طوال اللعب، وكان الصمت هو دافع الانصراف إلى خيار الدومينو في المقهى الذي بات مكانا لتجمع مثقفين، صحفيين وأدباء وفنانين وأساتذة جامعة، ومعهم طلبة وباعة وهاربون من خدمة الجيش وعاطلون عن العمل..كانت الأيام ساخنة بأحاديث الحرب المنتظرة ومصير السلطة وأفق الحرية الذي يلوح غامضاً، وكان صمت الدومينو هو ملاذ المجموعة التي كانت تتحسب من رصد أمني متوقع لمثل هذه الأماكن وهذه التجمعات..في إحدى المرات وفي منتصف وقت اللعب والاندماج فيه تناول رعد حقيبته وأخرج نصاً طويلاً..كان عنوانه الدومينو، قرأته..وكان من أفضل ما كتب رعد ومن أفضل ما خرجنا به من أيام الصمت والدومينو في مقهى الجماهير.يستطيع رعد بمهارة نادرة أن يستخلص من تفاصيل الحياة اليومية ومراراتها تراجيدياً تمتزج بسخرية لم يألفها الشعر كثيراً، خصوصاً الشعر العراقي المعروف بصرامته وجديته الحادتين..ينسحق رعد في النص ويسخر، يتألم ويبتسم، يفكر ويُجَن، يتأمل ويندمج، ليخرج بنص يضع المرء على شفا لحظته السوداء في التاريخ، لحظة من المرارة والضحك والحب والكره والقوة والضعف والتحدي والاستسلام.هذه هي لحظة الدومينو التي تكثف من جديد زمن (دع البلبل يتعجب) ثم (الأطروحة الشعبية)، هذين العملين الساحرين اللذين بهما، وبأعمال أخرى لشعراء آخرين، تخلّت قصيدة النثر في العراق عن التهويم الشعري اللغوي الفضفاض الذي هيمن على كثيرين في عقد الثمانينات، وانتقلت إلى فضاء تعبيري آخر يُعنى بالموضوع ويهتم بالمعنى الشعري ويتخفف من ادعاءات مبهمة سابقة عن تفجير اللغة واحتقار الدلالة الشعرية وتسفيه أية قيمة إنسانية لعمل الشعر سوى قيمة التداعي الحر والفوضوي للصور والكلمات.لكن تجربة رعد عبد القادر، حتى في ثمانينات اللامعنى ا
رعد عبد القادر ..الشاعر أكثر كرماً من الحياة
نشر في: 8 فبراير, 2011: 04:29 م