TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > رواية الشاكرية لكريم العراقي: قراءة في التحولات الاجتماعية والسياسية

رواية الشاكرية لكريم العراقي: قراءة في التحولات الاجتماعية والسياسية

نشر في: 22 يناير, 2025: 12:01 ص

جاسم الحلفي


كريم العراقي، واحد من أبرز الشعراء الشعبيين الذين تركوا بصمة عميقة في المشهد الثقافي العراقي والعربي، حيث برز كشاعر يتميز بأسلوبه المتفرد الذي يمزج بين العمق العاطفي والتعبير الواقعي. اتسمت أشعاره بطابعها الغنائي والإنساني، مما جعلها مصدر إلهام في الأغنية العربية. وقد تعاون مع الفنان الكبير كاظم الساهر، أحد أبرز المبدعين في مجالي الموسيقى والغناء، مما ساهم في انتشار شعره على نطاق أوسع.
الشعر بالنسبة له لم يكن مجرد كلمات مرصوفة في قوالب، بل كان وسيلة للتعبير عن الحب والقضايا الاجتماعية والهموم الإنسانية، حيث استلهم مواضيعه من معاناة الإنسان وآماله وتطلعاته. هذا التوجه جعل شعره أكثر قرباً من الناس وأكثر قدرة على التعبير عنهم.
على الجانب الآخر، جرب كريم العراقي كتابة الرواية كمساحة أخرى للأبداع. ربما أراد من خلال السرد، التعبير عن رؤى فكرية واجتماعية قد لا تتسع لها قصائد الشعر. تميزت (الشاكرية) روايته الوحيدة، ببنية سردية سلسة بسيطة، ولغة واضحة لا رمزية بها ولا غموض.
إذا أجرينا مقارنة عامة بين كفتي الإبداع، الشعر والرواية، نجد أن الشعر يمثل لغة الروح وإيقاع اللحظة، بينما تُعد الرواية فضاءً للفكر والسرد الممتد. كلاهما يغذي الآخر ويكمله، إلا أن قلة نادرة من الأدباء استطاعت الابداع في المجالين دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
تبقى الرواية مجالاً أدبياً له ثقله الخاص، فهي تمتاز بقدرتها على معالجة قضايا معقدة ضمن إطار سردي وزمني أوسع، مما يمنحها بعداً فكرياً عميقاً يصعب تحقيقه في أشكال أدبية أخرى. ومع ذلك، حين نرجح كفة الشعر لدى كريم العراقي دون تردد، يبرز السؤال المحوري: هل تمكن كريم العراقي من تحقيق ذات العمق والتأثير في مجال الرواية الذي حققه ببراعة في عالم الشعر؟
دعونا نصنف (الشاكرية) كحكاية أو بتعبير أدق، "حكاية صحفية". هذا التصنيف لا يقلل من قيمتها ولا يُعد تقييماً سلبياً لها، بل يشير إلى طبيعتها الخاصة. ويبدو أنها يوميات ومذكرات وحكايات الراحل وانطباعاته الشخصية.
تجلت بالوضوح والبساطة، بعيدة عن التأويلات أو الرموز، مما أضفى عليها طابعاً واقعياً نابضاً بأسلوب مباشر وشفاف. اعتمدت على سرد سلس ومفهوم، مع تفاصيل دقيقة لا تحمل غموضاً يُذكر. كذلك، تميزت بانسيابية الأحداث، وصيغت بجمل قصيرة ذات إيقاع متسارع، بأسلوب تعبيري قوي ومفعم بالعاطفة. كما تخللتها أبيات شعرية وأهازيج، وغلب عليها الحوار، مما عزز قدرتها على تجسيد الواقع بأسلوب مباشر وصادق.
هذا النهج يبدو مبرراً بالنظر إلى ظروف نشرها، حيث ظهرت لأول مرة في 16/1/2000 على شكل حلقات أسبوعية في مجلة (الرياضة والشباب – الأسرة العصرية) الإماراتية. استمر نشرها لمدة 65 أسبوعاً، ويبدو أن الحكاية صيغت بأسلوب يراعي جمهوراً غير عراقي، رغم أنها تناولت أحداثاً محلية بحتة بتفاصيل دقيقة تعكس واقعاً خاصاً بالمجتمع الذي كُتبت عنه.
يبدو أن هناك نزعتين متصارعتين في ذهن كريم العراقي أثناء كتابة هذه الرواية. فمن جهة، برزت نزعة الكاتب اليسارية وانحيازه الواضح للكادحين والمهمشين، مع إجادته في نقل صورة بطش انقلابيي 8 شباط عام 1963 وأزلامهم، وتوثيق انعكاس سياساتهم القمعية على أبناء الشاكرية، وما خلفوه من رعب ودمار في النفوس. ومن جهة أخرى، يظهر أنه اختار بحذر عدم إبراز الصوت والأثر الشيوعي بشكل واضح في الرواية، مع منح البعثيين في منطقة الشاكرية حضوراً أكبر من واقعهم الحقيقي. ربما كان ذلك مراعاة للظروف السياسية في ظل النظام السابق، وخوفاً من تبعات قد تطال الكاتب أو تؤثر على إمكانية طبع الرواية ونشرها. هذا الخوف، الذي عمل النظام الدكتاتوري على ترسيخه من خلال أجهزته القمعية وإعلامه الموجَّه، دفع بعض المثقفين إلى فرض قيود ذاتية على أنفسهم، خشية من بطش السلطة أو الوقوع في دائرة استهدافها.
هذا التوازن الظاهري قد يكون سببه أيضاً نشر الرواية على شكل حلقات في مجلة خليجية، حيث التزمت الرواية بتقديم الأحداث من زاوية عامة دون التركيز الكامل على بعض التفاصيل السياسية. ربما أراد الكاتب أن تصل رسالته عبر سرد إنساني شامل، دون أن تتسبب الإشارات المباشرة بمشاكل للنص أو للكاتب شخصياً، مما أدى إلى تغييب أو تخفيف بعض الجوانب التي كان يمكن أن تُبرز بصورة أكثر وضوحاً.
المكان في الرواية
تدور أحداث الرواية بين صرائف الشاكرية، المنطقة العشوائية القريبة من كرادة مريم وسط بغداد اليوم، ومدينة الثورة خلال أشهرها الأولى عند تأسيسها، لتنتهي عند شجرة السدرة بجوار كوخ (الشيخ درويش). تعكس الرواية من خلال هذه المواقع التحولات الكبيرة التي شهدتها تلك المناطق، مسلطة الضوء على التطورات السياسية والاجتماعية العميقة التي مر بها العراق في تلك الفترة.
تبدأ الرواية بأحداث يوم وصفه الراوي بـ(اليوم التاريخي)، وهو اليوم الذي احتشد فيه أهالي الشاكرية بترقب كبير لاستقبال المسؤول الحكومي الرفيع الذي جاء ليبلغهم بقرار نقلهم من منطقتهم إلى مدينة الثورة، التي لم تكن حينها سوى مساحة فارغة تتشكل في مخيلتهم كأمل جديد. في هذا اليوم، أُعلن عن تخصيص قطع أراضٍ لكل عائلة بمساحة 144 متراً مربعاً، ليكون ذلك بداية تحول اجتماعي في حياتهم، حيث تركوا أزقتهم الضيقة ليشرعوا في رحلة بناء حياة جديدة في المدينة الناشئة.
عكست الرواية روح التآخي والمواطنة من خلال الإشارة إلى حضور خميس الصابئي بجانب أبو أمين، صديق الشيوعيين، في بداية أحداث الرواية، مما يعكس التنوع والاخوة والتضامن الإنساني الذي كان سائداً في تلك الفترة. كما وعكست من جانب آخر عمق الصراع الاجتماعي الذي دار في منطقة الشاكرية، بين رغبة التمسك بالجذور والتقاليد، وبين نزعات التغيير والانفتاح على حياة جديدة. فقد سلطت الرواية الضوء على النزاعات العشائرية، متناولة قصة حب جمعت بين شاب وفتاة (عمران وياسة) تحديا الأعراف العشائرية التي رفضت زواجهما، ما اضطرهما للهروب معاً. كان النزاع قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى مجزرة دامية، لولا تدخل الرجل الشجاع (عبيد أبو محي)، موظف النكاسة، الذي أوقف القطار في لحظة حاسمة ليفصل بين الطرفين، مانعاً وقوع الكارثة. تجسد هذه الأحداث صراعاً بين التقاليد الراسخة ومحاولات التمرد عليها، مدفوعة بقوة الحب وشجاعة الموقف.
قدمت الرواية تصويراً حياً لمقاهي الشاكرية، التي كانت ساحة للتلاقي والتجاذب بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية، من قوميين وبعثيين وشيوعيين وإسلاميين، بالإضافة إلى أولئك الذين وجدوا في لعبة "الدومينو" مهرباً من واقعهم اليومي. ورغم ذلك، يمكن ملاحظة مبالغة في تصوير الحضور البعثي في الشاكرية، حيث كان وجودهم محدوداً آنذاك، ومقتصراً على أفراد معدودين. على الجانب الآخر، سلطت الرواية الضوء على حياة الكدح والعمل الشاق الذي طبع حياة أهالي الشاكرية، مجسدةً التناقض بين تطلعاتهم نحو الاستقرار والطموح، والتحديات الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بهم.
أطفال العشوائيات
سلطت الرواية الضوء على الظروف القاسية التي دفعت الأطفال، ومنهم (أمين)، بطل الرواية، إلى خوض غمار العمل منذ صغرهم. تنقل الرواية مشاهد مؤثرة من حياة أمين، الذي عمل تارة في مقهى يقدم الماء للزبائن، وتارة أخرى كبائع متجول للمرطبات، وهو عمل لم ينجح فيه. كذلك، تطرقت الرواية إلى تجربته مع المدارس والدراسة، وجعلته يصارع الحياة بين صفوف المدرسة وقسوة الحياة وضغوط العمل، تفيض الرواية بشحنات عاطفية عميقة، تنقل معاناة بطلها بأسلوب يلامس القلوب، ويعكس واقعاً مريراً عاشته شريحة كبيرة من المجتمع.
رغم قسوة الأوضاع بدأ أطفال الكادحين مبكراً اهتمامهم بمواهبهم وتطويها، حيث اشار الكاتب من خلال شخصية البطل، الى موهبته الشعرية المبكرة الذي بدأ بحفظ كلمات الأغاني وكتابتها، ليبيعها لاحقاً لزبائن المقهى. هذا الجانب أضاف بُعداً إنسانياً وإبداعياً إلى الرواية، حيث أظهر كيف يمكن للموهبة أن تتفتح حتى في ظل ظروف معيشية صعبة، مما يعكس صراعاً بين القسوة والأمل في حياة البطل.
اهازيج الحياة اليومية
تناولت الرواية في سياقها تفاصيل الحياة اليومية، متضمنة الهوسات الشعبية والأهازيج السياسية التي عكست المزاج العام ومشاكسات التيارات السياسية وتنافسها الحاد. يهتف القاسميون:
"سالم سالم يسلم راسك… يا قاسم شعبك حراسك"،
ويردد الشيوعيون:
"هوب هوب عفلق.. كدمك الطسة… جمال وكع بالوحل محمد لكه نصة"،
بينما يهتف البعثيون:
"يا بغداد ثوري ثوري… خل قاسم يحلك نوري"
كما أضاءت الرواية على أغاني الطفولة ومحفوظات المدارس، مثل:
"خرجت يوم العيد… بملبسي الجديد"،
في تصوير حي يعكس مظاهر التراث الشعبي وتوترات الصراعات السياسية الساخنة.
المرأة في الرواية
برز حضور النساء بشكل لافت في الرواية، حيث عكست شخصيات نساء الجنوب اللواتي عشن في هذه المدن الهامشية دورهن الفاعل والمؤثر في مجريات الأحداث. شاركن بفاعلية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في تفاصيل الحياة اليومية، من خلال العمل في الأسواق لتأمين لقمة العيش، إلى جانب تدبير شؤون المنازل وسط ظروف قاسية. ولم يقتصر دورهن على الأعباء الأسرية، بل امتد ليشمل حضوراً قوياً في التجمعات، والتظاهرات، وحتى في الأحداث السياسية، مما أبرز إسهاماتهن كشريك أساسي في مواجهة تحديات الواقع.
من أبرز صور شجاعة نساء الشاكرية، ما قامت به (وسيلة)، الكادحة التي تبيع الخضروات في سوق الشاكرية، والمعروفة بـ(أم الكرفس)، حين قادت مجموعة من النساء لاقتحام مركز شرطة الشاكرية واحتلاله. في خطوة جريئة، استولت ورفيقاتها على أسلحة الشرطة وقمن بتوزيعها على المتظاهرين، مما جسّد روح التضامن الثوري وأشعل شرارة الحراك الشعبي لاستعادة الكرامة والحقوق. هذا الموقف الشجاع أكد أن النساء كنّ في طليعة النضال، لا يقلن إقداماً وشجاعة عن الرجال في معركة العدالة الاجتماعية.
ومن المفارقات اللافتة في مدينة الثورة وجود أربعة أسواق، ثلاثة منها تحمل أسماء نساء: (سوق عريبة، سوق جمالة، سوق العورة)، بينما السوق الوحيد الذي يحمل اسم رجل هو (سوق مريدي). يعكس هذا التباين بوضوح الدور الحيوي والمحوري الذي اضطلعت به المرأة الجنوبية في تلك الأحياء الشعبية، حيث كانت شريكة أساسية في بناء تفاصيل الحياة اليومية وتأمين متطلبات المعيشة للعائلة، مما يؤكد مكانتها كركيزة ثابتة في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمدينة.
وبهذا، قدمت الرواية صورة متكاملة عن نضال نساء الشاكرية، وصمودهن في مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، مع إبراز وعيهن الاجتماعي والسياسي ودورهن المؤثر في تعزيز النسيج المجتمعي. حضورهن أصبح رمزاً للقوة والتحدي في مواجهة الظروف القاسية.
عبر استخدام أسماء الأسواق، أشار الروائي بوضوح إلى قوة حضور النساء في هذا المجتمع الناشئ ودورهن الفاعل في بناء اقتصاد المدينة. كما عكست هذه الأسماء الأثر البارز للمرأة في صياغة هوية المدينة، حيث تخطى دورهن المجال المنزلي ليصل إلى الأسواق والأعمال، مما يعكس التحولات الاجتماعية التي رافقت نشوء المدينة.
زمن الرواية:
تناولت الرواية حقبة زمنية حافلة بالأحداث الاجتماعية والسياسية التي رسمت ملامحها، حيث بدأت بالسرد منذ اللحظة التي قرر فيها الزعيم عبد الكريم قاسم نقل سكان مناطق العشوائيات، (خلف السدة والعاصمة والميزرة والشاكرية)، إلى مدينة الثورة. كانت هذه الخطوة تهدف إلى تحسين أوضاع هؤلاء السكان المهمشين وتوفير حياة أكثر كرامة وإنسانية لهم.
أبرزت الرواية أيضاً تفاصيل الانقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963، مصورةً أجواء الرعب والقمع التي عمّت البلاد. من خلال مشاهد مؤثرة، عبّرت عن كثافة إطلاق النار والممارسات الوحشية التي ارتكبها الحرس القومي ضد المدنيين، بما في ذلك المداهمات الليلية وحملات التفتيش المكثفة عن الأسلحة. عكست تلك المشاهد بوضوح حالة الذعر والخوف التي عاشها الناس تحت وطأة القمع السياسي، مما أضفى على الرواية بعداً إنسانياً يوثق تلك الحقبة المظلمة.
عكست الرواية بمهارة التحولات السياسية والاجتماعية العميقة التي شهدتها المدينة خلال تلك الحقبة، مسلطة الضوء على التوترات الناجمة عن الانقلاب الفاشي وتبعاته القمعية. تناولت التفاعل الديناميكي بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة، من القوميين والبعثيين إلى الشيوعيين، مع إبراز دور المرأة وحضورها المؤثر في مواجهة التحديات.
لم تقتصر الرواية على تصوير الجانب المظلم من تلك الفترة، بل وثّقت أيضاً ردود أفعال الجماهير تجاه الانقلاب. أبرزت كيف تصدى البعض، ومن بينهم النساء، للقمع بشجاعة، دفاعاً عن ثورة 14 تموز ومكتسباتها. كما ألقت الضوء على التقدير الكبير الذي حظي به الزعيم، الذي لطالما وقف إلى جانبهم ودعم حقوقهم. أضاف هذا البُعد الإنساني والحميمي للرواية عمقاً خاصاً، عاكساً ارتباط الجماهير بشعارات الثورة وقيمها، وشجاعتهم في الدفاع عنها رغم المصاعب الجسيمة.
الانتقال الى المدنية وبناءها
عرضت الرواية السنوات الأولى لبناء مدينة الثورة، مسلطةً الضوء على صراعات الأهالي بين التكيف مع واقعهم الجديد والحنين إلى ذكريات مناطقهم القديمة، مع توثيق التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهوها. وقدّمت صورة حية لعملية البناء، حيث اعتمدت العوائل على جهودها الذاتية رغم الإمكانيات المحدودة. شيد السكان بيوتهم بمساحات متساوية بلغت 144 متراً مربعاً لكل منزل، باستخدام تصاميم بسيطة تعكس ذائقة ذلك الزمان وامكانياتهم المالية وظروفهم الاقتصادية. شارك الجميع في البناء، الأبناء يحملون المواد، الآباء يبنون، والأمهات يدعمن العمل اليومي. عكست هذه التفاصيل روح التكاتف والمثابرة التي حولت المشروع إلى إنجاز جماعي، حيث أصبحت البيوت رمزاً للإصرار على بناء حياة جديدة رغم كل التحديات.
كما سجلت الرواية حضوراً رياضياً وفنيا بارزاً لمدينة الثورة، مسلطة الضوء على الفرق الشعبية التي كانت تمثل نبض الشباب وحيويتهم. تناولت الرواية بأسلوبها السردي فريق (اتحاد فيوري) ولاعبيه، الذين عكسوا شغف شباب المدينة بالرياضة كوسيلة للتعبير عن الأمل والطموح في ظل ظروفهم الصعبة. إضافة إلى ذلك، لم تغفل الرواية الإشارة إلى اللاعبين الذين انطلقوا من هذه الفرق الشعبية، كـ(اتحاد فيوري) الذي وصل بعض لاعبوه كما وصل لاعبو الفرق الشعبية الأخرى إلى المنتخب العراقي، منهم عبد الزهرة اسود وكاظم عبود ورسن بنيان. قدّمت الرواية هؤلاء اللاعبين كرموز للبراعة والتميز، الذين أضاءوا المشهد الرياضي المحلي والدولي، مع المحافظة على البراءة والبساطة التي ميزت أبناء المدينة. بهذا، أضافت الرواية بُعداً رياضياً يعزز من شمولية رؤيتها للحياة في مدينة الثورة.
كما تناولت مطربو المدينة وموسيقاها الشعبيون أمثال(سيد محمد وحسين سعيدة وسلمان المنكوب)، إلى جانب عازف الكمان المبدع (فالح حسن)، الذين أضفوا بأغانيهم وعزفهم روحاً مميزة على ذاكرة المدينة وثقافتها الشعبية. كما أسلفنا، الرواية هي أقرب للحكاية فقد سردت ذكريات ويوميات بلغة صحفية، واضحة وبسيطة، تخلو من الرمزية أو التورية. ومع ذلك، يمكن للقارئ أن يتوقف عند بعض الملاحظات الختامية التي تكشف أبعاداً أعمق للنص وتفتح الباب أمام التأمل.
البدايات:
يعكس اليوم الذي تجمع فيه سكان الشاكرية استعداداً للانتقال لحظة مفصلية في حياتهم، حيث لم يكن هذا الحدث مجرد انتقال جغرافي، بل كان بمثابة قطع لجذورهم التاريخية والاجتماعية. يمثل الانتقال من الشاكرية إلى مدينة الثورة تحولاً اجتماعياً عميقاً، عكسته الرواية من خلال توثيق التغيرات التي طرأت على حياتهم وظروفهم المعيشية.
النهايات:
تسليم شهادات النقل من المدرسة الابتدائية يرمز إلى نهاية حقبة الشاكرية بشكل كامل وتحولها إلى معسكر، مما يعكس فقداناً معنوياً للمكان بكل ما يحمله من ذكريات وعلاقات.
المكان والهوية:
حزن البطل يعكس ألم اقتلاع الجذور، حيث تجسد الشاكرية هوية وذكريات ضاعت في الماضي، والسدرة المخترقة برصاصة رمز لفقدان وحزن جماعي وصراع بين التمسك بالماضي والمضي نحو المستقبل.
العسكرة وحمامات الدم:
الانتقال من الشاكرية إلى مدينة الثورة، رافقة انقلاب دموي، ناقض الوعد بتحقيق تحول مدني، حيث تحولت الشاكرية إلى معسكر وخراب. هذا التحول أظهر استخدام السلطة لموارد المجتمع لتعزيز السيطرة العسكرية بدلاً من تحسين حياة الناس، مما قوض قيم التقدم والحداثة.
تمزيق الذاكرة:
الرصاصة التي تخترق جدار السدرة ترمز إلى العنف الذي يمحو الماضي ويمزق الذاكرة. السدرة، كرمز للجذور والسلام والاستقرار، تجسد ما تبقى من روح المكان، واختراقها يعبر عن تدمير العنف للذكريات. أما المدرسة، فهي تمثل الانتقال بين القديم والجديد، حاملة معاني البراءة والذاكرة الجماعية التي أصابها هذا العنف.
الامن المفقود:
إطلاق النار على طلاب يافعين وهم يراجعون مدرستهم لاستلام وثائق نقلهم، بعيد انقلاب 8 شباط يكشف غياب الأمان وانحسار التحول المدني لصالح المشاريع العسكرية. تسلط الرواية الضوء على مشروع تحضر زائف غطى ممارسات قمعية، عاكساً أزمة أعمق في العراق حيث تصادمت الشعارات الطموحة مع واقع القمع والصراعات.
التهميش:
تسلط الرواية الضوء على التناقض بين النوايا الحسنة لحكومة 14 تموز والواقع القاسي الذي تلا انقلاب 8 شباط، متسائلة: هل كان هذا الانتقال خطوة ناجحة نحو التحديث أم أن ظلال التهميش ظلت تلاحق هؤلاء السكان؟
الطبقية:
تَعَرض سكان الشاكرية، الذين ينتمون إلى الطبقة الفقيرة، للاستغلال تحت ذريعة التحول المدني، ليصبحوا ضحايا لمشاريع السلطة التي تجاهلت مصالحهم لصالح تعزيز سيطرة النخبة الحاكمة. تكشف الرواية كيف استُخدم التحضر كوسيلة لتكريس القوة العسكرية والسياسية، مما حول الحلم المدني إلى كابوس عسكرة، وأدى إلى تعميق الفجوة الطبقية وزيادة الشعور بالنكوص والخذلان لدى المجتمع والشخصيات.
اخيراً
تميزت رواية (الشاكرية)، حكاية الراحل كريم العراقي، بأرشفتها لتفاصيل الحياة اليومية في تلك الحقبة، موثقةً جوانب من الذاكرة الشفوية. من خلال ذلك، لم تكن الحكاية مجرد سرد لوقائع الانتقال والتحول، بل شهادة إنسانية على فترة حاسمة من تاريخ مدن العراق الهامشية وأناسها الكادحين.
أضفى الشاعر الراحل على المكان طابعاً ذاتياً جعله جزءاً من الذاكرة الجمعية، مستحضراً شعور الفقد والانتماء، ومتيحاً للقارئ أن يعيش مع الشخصيات إحساسها العميق بالاغتراب والحنين. في هذا السياق، جسدت الرواية التحولات الاجتماعية والسياسية التي تركت أثراً عميقاً على حياة الأفراد والجماعات، مسلطة الضوء على كيفية مقاومة الذاكرة الجمعية لهذه التغيرات عبر التشبث بالتفاصيل الصغيرة التي حملت معاني كبيرة. أصبحت الحكاية مرآة تعكس صراع الإنسان مع التغيرات القسرية، ومحاولة استعادة ما يمكن استعادته من صور الطفولة وذاكرة الماضي، لإحياء روح الانتماء رغم ما فرضته الظروف القاسية من انقطاع وفقدان.
بهذا، تقدم الرواية خاتمة مؤثرة وواقعية لفصل طويل من التحولات في تاريخ العراق، حيث يتداخل الحنين إلى الماضي مع واقع جديد مشحون بالتحديات، ليبقى السؤال: هل يمكن للإنسان أن يحافظ على ذاكرته وهويته وسط هذا التحول الجارف؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: لجنة المرأة تحارب النساء

أسباب تخلف العالم العربي في العلوم والتكنولوجيا

العمود الثامن: خواطر من بلاد العمل

بين المتطلبات الأكاديمية والتحديات المهنية تعقيدات تطبيق تعليمات الترقيات العلمية

العمود الثامن: ليلة نوبلية في دبي

العمود الثامن: كشكش يك في مجلس النواب

 علي حسين شاهدنا العرض الكوميدي في جلسة مجلس النواب والتي تم فيها عقد صفقة تمرير قانون العفو مقابل قانون الاحوال الشخصية ، والقانونين مقابل قانون العقارات ، وقد اخبرتنا النائبة نور الجليحاوي، أن...
علي حسين

رواية الشاكرية لكريم العراقي: قراءة في التحولات الاجتماعية والسياسية

جاسم الحلفي كريم العراقي، واحد من أبرز الشعراء الشعبيين الذين تركوا بصمة عميقة في المشهد الثقافي العراقي والعربي، حيث برز كشاعر يتميز بأسلوبه المتفرد الذي يمزج بين العمق العاطفي والتعبير الواقعي. اتسمت أشعاره بطابعها...

من الفكر الاخلاقي عند السيد حسين الصدر

غالب حسن الشابندر تحتل القضية الاخلاقية مكانة قصوى في اهتمامات السيد حسين إسماعيل الصدر، فالرجل لا يكاد يطرق قضية في مسائل الاجتماع والحقوق والواجبات والمواطنة حتى نجد للاخلاق مساحة كبيرة في طرحه أو طروحاته...
غالب حسن الشابندر

المغاربة يتألقون وعيا في مدونتهم الاسرية

هادي عزيز علي حراك غير مسبوق للشعب المغربي المثابر من اجل تحديث مدونته الاسرية، رؤى وافكار وطروحات وسجالات افضت الى مقترحات عدة دخل منها قائمة التوصيات المطلوبة للتعديل. العاهل المغربي حاضرا ومتماهيا ومستجيبا ومبادرا...
هادي عزيز علي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram