TOP

جريدة المدى > عام > بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

نشر في: 27 يناير, 2025: 12:03 ص

بلقيس شرارة
ولد بدر شاكر السياب في قرية "جيكور" في محافظة البصرة، في جنوب العراق، وقد توفيت والدته عندما كان في سن السادسة من عمره، إذ كان لوفاتها أثر عميق في حياته، بل كان هذا الفقدان المبكر لأمه قد فتح "في وجدانه هوة سحيقة لا يملؤها إلا عطف الأمومة وحنانها لذلك يوعز كثير من النقاد تهافته على المرأة إلى ذلك النقص في حياته ليستعيض عن حنان الأم بدفء المرأة". (استراتيجية الشعرية عند بدر شاكر السياب، د. محمد سعدون).
وقصيدته " أنشودة المطر" تعّبر عن هذه الحالة التي مرّ بها:
كان طفلاً بات يهذي قبل أن ينام
بأن أمه- التي افاق منذ عام
فلم يجدها، ثم حين لجّ في السؤال:
قالوا له بعد غد تعود
لا بد أن تعود
وانتقل إلى مدينة البصرة لمتابعة دراسة الثانوية، ومن ثم إلى بغداد حيث التحق بدار المعلمين العالية، وتخرج في عام 1948 في اللغة الإنكليزية. كان بدر معروفاً في الوسط الطلابي في بغداد عندما كان يلقي قصائده الوطنية والسياسية في الاحتفالات الطلابية. والتقى الشاعر عبد الوهاب البياتي ببدر في دار المعلمين، وكان كليهما يقرأ قصائده للآخر، فشعر البياتي بتفوق بدر عليه لأنه كان معروفاً أكثر منه.
بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية، مرّ العراق بنوع من الإنفتاح النسبي، حيث أجيزت ألاحزاب والجرائد، وبدأ الكتاب والسياسون يطالبون بالإصلاح، لكن لم يسمح للحزب الشيوعي بممارسة نشاطه، فظل حزباً سرياً، لكنه استفاد من الحرية التي سادت أجواء العراق، وقد نشط في تكوين نفسه وكوّن كادراً مهماً من المثقفين الذين انتموا إليه آنذاك، وكان الشاعر بدر شاكر السياب، الذي كان طالباً في دار المعلمين العالية، عضواً في الحزب الشيوعي كمعظم الشباب آنذاك.
أدى هذا الإنفتاح في عقد الأربعينيات إلى ظهور حركة ثقافية واسعة، واكبت الحركة الوطنية، وانقلبت إلى ثورة فكرية في جميع المجالات الأدبية والفنية والسياسية والإجتماعية. وفي بداية عام 1946، انعقدت أول ندوة شعرية في دار والدي محمد شرارة، في حي سبع قصور في الكرادة الشرقية. شكّلت هذه الندوة الاسبوعية بداية النهضة الشعرية، وحركة التجديد في الشعر الذي انتشر بسرعة بين شعراء العراق الشباب، ومن ثم بين شعراء العالم العربي، والذي عُرف "بالشعر الحر". كان الجدل والنقاش حول تجديد الشعر وجعله بعيداً عن القافية التي تحدد الشاعر في قالب معين. ولم تظهر حركة تمس البنية العامة للشعر مثلما حدث آنذاك، (حيث تعرضت موسيقى الشعر إلى هزات نقدية عنيفة زلزلت أركانه من اساسها). كما كان الجو ناضجاً لولادة مثل هذا الشعر، وتعد قصيدة بدر "هل كان حباً" أول قصيدة له في كتابة الشعر الحر.
إذ بدأ الشعر الحر في اوربا في ثمانينيات القرن التاسع عشر في فرنسا، واصبح الشعر الحر شائعاً في الشعر الإنكليزي في بداية قرن العشرين. كان بدر مطلعاً على شعر الشعراء الإنكليز الذين ساهموا في هذه الحركة، من أمثال الشاعر تي أس إليوت وزكارل سانبرج ووليم كارلوس ليماز، إذ تخصص بالأدب الإنكليزي. وأصدر ديوانه الأول "أزهار ذابلة" وكسر في قصيدته "هل كان حباً" جمود الشعر العمودي لشعر التفعيلة.
كان بدر من بين أول الحاضرين في تلك الندوة. وكانت تصل لميعة بعده فيتم اللقاء بينهما قبل وصول الشعراء والأدباء الآخرين إلى الدار. كانا كليهما يهتم بهذه الخلوة، ولو لفترة قصيرة.
إذ كان معظمهم من الشباب، وخليط من الشعراء والكّتاب، من أمثال نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وبلند الحيدري وأكرم الوتري، وكريم مروة وغيرهم.
كان بدر يؤمن أن "(لشاعر إذا كان صادقاً في التعبير عن الحياة في كل نواحيها، فلا بد من أن يعّبر عن آلام المجتمع وآماله، دون أن يدفعه أحد إلى هذا. كما إنه من الناحية الأخرى يعّبر عن آلامه هو وأحاسيسه الخاصة، التي هي في اعمق أغوارها أحاسيس الأكثرية من أفراد المجتمع).
كان للمرأة دور مهم في الشعر، وبرزت في الأساطير والف ليلة وليلة، ولعبت المرأة دوراً مهماً في حياة بدر، فقد أحب عدداً من النساء، وحين عجز عن إمالة قلبوهن إليه تمنى لو أنه كان مكان ديوانه، حيث ألقى في تلك اللقاءت قصيدته المشهورة:
ياليتني كنت ديواني
لأفر من صدر إلى ثاني
قد بت من حسد أقول له
ياليت من تهواك تهواني
إنها دليل على خيبة الشاعر في هذا الصدد، وقد كتبت عنه شقيقتي حياة: (لم يكن بمقدوره أن يلفت انظارهن إلى شخصه، وكأن ثمة حاجز بين شخصه وشعره، فالأول متوار في الظل لا يلحظه المرء رغم حضوره، والثاني يتألق في الفضاء الرحب المشمس جاذباً إليه الأبصار).
وقد بدأت العلاقة بين لميعة بدر عندما كانت في الصف الأول في كلية دار المعلمين عام 1946، وكان بدر آنذاك في الصف الثالث. وكانت علاقة صداقة في البداية مثل باقي الزملاء، حتى قدّم لها كتاب بعنوان: "أشهر رسائل الحب" عن جوزفين بونابرت، وحسبما ذكرت لميعة أنها رفضت في البداية استلام الكتاب. وبعدها تطورت العلاقة بينهما في منتصف عام 1947، وبعدها تخرج بدر من دار المعلمين وعين مدرساً في الرمادي، كان يلتقي بها كل يوم خميس في تلك الندوة.
كان بدر متألماً من موقف لميعة منه، عندما رفضت طلبه بالزواج لإختلاف دينهما وتزوجت شخصاً من الصابئة. كان بدر حديٌّ فأصيب بخيبة أمل وهجاها هجاءاً عنيفاً. وانقطعت العلاقة بينهما، وانقلب إلى حقد دفين، إذ كان بدر عاطفي المزاج وتجلت بردود فعل لا عقلاني تجاهها.
حتى أن والدي لم يكن مرتاحاً من قصيدته التي هجاها بها. ولكن اشتهرت قصيدته (اساطير)، التي نظمها كرد فعل على التقاليد البالية التي كان يرزح تحتها المجتمع:
أساطير من حشرجات الزمان
نسيج اليد البالية
رواها ظلام من الهاوية
وغنى بها ميتان


وهذا الغرام اللجوج
أيرتد من لمسة باردة
على أصبع من خيال الثلوج
واسطورة بائدة


ولم تلتقي لميعة ببدر حتى عام 1956، عندما دعيا من قبل "جواد علي طاهر" في دار المعلمين وقرأ بدر قصيدة حماسية وسياسية عن بور سعيد، كان بدر في تلك الفترة متزوج.
وفي عام 1963 القي القبض على لميعة في الإنقلاب الذي قام به البعثيون والقوميون بقيادة عبد السلام عارف، ونظم بدر قصيدة بها، وعنوان القصيدة:
وغيبّها ظلام السجن وتؤنس ليلها شمعة
فتذكرني وتبكي، غير أني لست أبكيها
واستمر بدر على زيارة والدي حتى ترك والدي العراق، في عام 1954 وسافر إلى لبنان، وعاد بعد ثورة 14 تموز.
كان بدر معروفاً بميوله اليسارية، ونضاله في سبيل تحرير العراق من الاحتلال الإنكليزي، وفُصل بسبب ميوله السياسية وأودع السجن، وبعدها عمل في البصرة وبغداد. وفي عام 1954 عاد إلى بغداد وعمل في مديرية المستوردة، حيث كان والدي موظفاً بها أيضاً.
تأسست مديرية المستوردة بعد الغاء وزارة التموين، وكان رئيس الدائرة آنذاك ناظم الزهاوي الذي كان من اصدقاء نوري السعيد، لكن طلب منه ان يختار الموظفين، حيث اختارهم حسب الكفاءة والنزاهة، بغض النظر عن القومية أو الدين أو الرأي السياسي، ووضع تعليمات مشددة على الموظفين، عليهم ان يتبعوها مع التجار. كان هنالك اثنى عشر كاتباً بين شاعر وأديب، معظمهم من المثقفين اليساريين الذي فصلوا من وظائفهم بسبب اتجاههم اليساري. كانوا في بعض الأحيان ينتهوا من العمل قبل الثانية بعد الظهر، فيجتمع هؤلاء الأدباء والشعراء يتنافسون في نظم الشعر، وكان من بينهم بدر شاكر السياب وأكرم الوتري ومحمد شرارة ورشيد ياسين وكاظم السماوي والكاتب جاسم الرجب ونجيب المانع ونوري الراوي وعامر عبدالله وغيرهم.
والقى بدر قصيدته (أم السجين المضرب) عن "نعمان محمد صالح" الذي رفض كسر الإضراب عن الطعام في السجن وتوفي على أثرها.
لك أن تنام ولي السهر أيقر جنبي وهو يحتضر
طفلي الذي ربيته بدمي وبأدمعي وزها به العمر
مرّ بدر بمراحل عديدة في حياته القصيرة، فرحلة من القرية التي ولد بها ثم العاصمة بغداد التي درس بها، وبعد ثورة 1958، اختلف مع أعضاء الحزب الشيوعي، وادى به الوضع إلى كتابة مقالات في "جريدة الحرية" بعنوان "كنت شيوعياً" هاجم بها أعضاء الحزب الشيوعي، وكانت بعض المقالات متطرفة، بعيدة عن الاعتدال، صدرت بكتاب بنفس العنوان.
وأخيراً الغربة في الكويت. كانت رحلة مؤلمة فمن أوجاع الفقدان عندما فقد والدته في سن السادسة من العمر، إلى أوجاع الحرمان ثم السجن والمرض إنها حالة فريدة مكللة بالألم.
فيقول في قصيدته "سفر أيوب":
ولكنّ أيّوب إن صاح صاح
لك الحمد، إن الرزايا ندى
وإن الجراح هدايا الحبيب
أضمٌ إلى الصدرِ، باقتها
هداياكَ في خافقي لا تغيب
وفي قصيدة أخرى يذكر موت أمه:
ولا شيء إلا الموت يدعو ويصرخ فيما يزول
خريف، شتاء أصيل أقول
وباق هو الليل بعد أنطفأ البروق
وباق هو الموت، أبقى وأخلد من كل ما في الحياة
ولم يكن بدر شاعراً فقط وإنما كان مترجماً أيضاً، فقد اضاف إلى المكتبة العربية الترجمات الشعرية والأدبية، منها ترجمة الكاتب ألاسباني فدريكو جارسيا لوركا، والأمريكي عزرا باوند، والهندي طاغور، والتركي ناظم حكت، والبريطاني تي أس أليوت وإديث ستويل ومن شيلي الشاعر بابلو نيرودا.
ظل المكان متجذر في اعماقه، إذ (إن العلاقة بين المكان والإنسان متجذرة في اعماق النفس البشرية وطبيعة هذه الوشجية الترابية تبقى مجهولة الغور في طوية الإنسان… فالشاعر الجاهلي تعلق بالأطلال، أما الشاعر الحديث فيركز على موطنه ومسقط رأسه، وتبقى العلاقة شديدة بالذكريات والمكان). "الإستراتيجية الشعرية عند بدر شاكر السياب، د. محمد سعدون".
الليل والسوق القديم وغمغمات العابرين
والنور تعصره المصابيح الحزانى في شحوب
مثل الضباب على الطريق
من كل حانوت عتيق
بين الوجوه الشاجيات كأنه نغم يذوب
في ذلك السوق القديم
توفي بدر بمرض أقعده منذ عام 1961، وهو مغترب في الكويت، ونقل جثمانه إلى جيكور، وشيعه عدد قليل من أهله وأبناء محلته، ودفن في مقبرة حسن البصري في الزبير وبذلك انتهى تجسيد الألم والعذاب في قصائده، التي كانت مرآة لحياة الفقدان وغياب الأحبة والسجن والمرض.
إن متُ ياوطني فقبرٌ في مقابرك الكئبة
أقصى مناي، وإن سلمتُ فإن كوخاً في الحقول
هو ما أريد من الحياة، فدى صحاريك الرحيبة
أرباض لندن والدروب، ولا أصابتك المصيبة

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وفاة المخرج السينمائي العراقي محمد شكري جميل

الداخلية: طرد أكثر من 4 آلاف منتسب وإحالة 15 ألف قضية إلى المحاكم

ائتلاف المالكي يحذر من عودة المفخخات والتهديدات الارهابية الى العراق

طقس صحو والحرارة تنخفض بعموم العراق

الفصائل تهدد "عين الأسد" بسبب احتمالات بقاء الأمريكيين فترة أطول في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

علم القصة - الذكاء السردي

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

عدد خاص للأقلام عن القصة القصيرة بعد ثلاثة عقود على إصدار عدد مماثل

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

ليلة مع إيمي

مقالات ذات صلة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب
عام

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

بلقيس شرارةولد بدر شاكر السياب في قرية "جيكور" في محافظة البصرة، في جنوب العراق، وقد توفيت والدته عندما كان في سن السادسة من عمره، إذ كان لوفاتها أثر عميق في حياته، بل كان هذا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram