ستار كاووش
مضيتُ مبكراً نحو المحطة الرئيسية لمدينة فيينا، ساحباً حقيبتي خلفي ومتجهاً نحو القطار الذي سيقلني الى هولندا عِبرَ ألمانيا. وضعتُ الحقيبة الكبيرة في المكان المخصص للحقائب، وحملتُ الأخرى الصغيرة معي باحثاً عن الكرسي المكتوب رقمه بالبطاقة. وهناك أخذت مكاني قرب النافذة. ولم تمض لحظات حتى إقترب شاب أشقر طويل القامة وجلسَ قبالتي تماماً، وبدا أنه طالباً لأنه إنشغل مباشرة بالقراءة على الآيباد الذي وضعه صحبة بعض الكتب على الطاولة الصغيرة التي بيننا. في حين كانت قهقهات الفتيات الأربع تملأ المكان، حيث شغلن الكراسي الأخرى المتقابلة في الجهة الموازية لنا.
تحرك القطار وتوارتْ المحطة ورائنا، بل صارت المدينة كلها خلفنا، ببهجتها وأناقة شوارعها وتماثيلها وجمال متاحفها. وفيما أنا أتطلع من النافذة التي كشفتْ عن مشهد أخضر مفتوح ومترامي الأطراف، إنفتحَ باب الكابينة ودخلتْ امرأة قادمة من كابينة المطعم المحاذية لنا، تلف شعرها فوق هامتها بهيئة كرة صغيرة، وتحمل صينية مربعة مليئة بأكواب القهوة والكابتشينو وبعض قطع البسكويت، شقت طريقها في الممر الذي بين الكراسي وتوقفتْ هنا وهناك لتوصل الطلبات التي أوصى عليها بعض الركاب.
كلما أسهبَ القطار بسيره، إنكشفَ ضوء النهار أكثر وصارتْ ألوان الطبيعة أشد إشراقاً وأصبحتْ تفاصيل الأماكن أكثر وضوحاً. ألقيتُ نظرة من خلال النافذة، فظهرَ على الجانب مصنع لإعادة تدوير الورق القديم والمستعمل، حيث إنشغلتْ الرافعات الشوكية بنقل أطنان من رزم الورق الضخمة المضغوطة بهيئة مكعبات وبلون رمادي تخلَّلَته بعض البقع الصغيرة الملونة، ومن المرجح أن تمر هذه الرزم ببعض المراحل قبل أن تتحول الى ورق صحف أو كارتون لتغليف السلع. مرَّ القطار بفترة هدوء أخضر جراء الحقول المفتوحة التي تملأ كل الأفق، ولم يحرك المشهد سوى بعض البيوت الصغيرة بسقوفها المبنية بالحجر الأحمر، ومداخنها البيض الطويلة التي إنتصبتْ كأنها تُفشي أسرار المنازل من خلال الدخان الداكن الذي يتصاعد منها ويختفي خلف بعض التلال. إنشغلتُ بالنظر لبعض المسافرين الذي صعدوا من إحدى المحطات التي إمتلأت جدرانها بكتابات ورسومات الغرافيتي المتشابكة. وما أن ترك القطار هذه المحطة وسار من جديد وسط الخضرة، حتى ظهر على الجانب، جدار طويل مبني بأحجار ضخمة ويُسَيِّجَ حقلاً طويلاً موازياً لسكة القطار، وقد غطت الجدار بعض النباتات المتسلقة التي تشابكت أغصانها الرفيعة، فيما إنبثقت بعض أشجار البلوط من خلف الجدار، تلتف على جذوعها الداكنة حبال من النباتات المتسلقة بلون أوكر فاتح، ما منحَ المشهد نوعاً من الطرافة حيث بدتْ هذه الأشجار كأنها مجموعة فتيات تتدلى من رؤوسهن جدائل شقراء.
وصل القطار الى محطة مدينة نورنبورخ، وتوقف هناك، وكان عليَّ أن أُغَيِّرَ القطار، فإنتقلتُ الى الرصيف المقابل، حيث القطار الذي سيكمل الطريق الى ألمانيا، وقد قام الكثير من المسافرين بذلك، فيما تجمع موظفو القطار الذين شاركونا الرحلة على الرصيف المحاذي للقطار المتوقف وإنشغلوا بتدخين السجائر والمزاح ببعض الكلمات التي بَدَتْ خادشة، وهذا ما خمنته بسبب ضحكاتهم المتكررة وحركات أيديهم غير البريئة.
أخذت مكاني في القطار الذاهب نحو مدينة هانوفر، وبعد أن صعد بعض المسافرين وأكمل القطار طريقه، فتحتُ حقيبتي وأخرجت واحدة من الشطائر التي إشتريتها من المحطة، وإلتهمتها وأنا أتصفح أحد الكتب التي جلبتها معي من مدينة فيينا. مرَّ بعض الوقت وعيني مثبتة على صفحات الكتاب، وما أن رفعتُ بصري حتى لاحت مزارع لأشجار التفاح التي تشابكت أغصانها فبدت مثل شجرة موندريان الشهيرة، وبمحاذاة هذه المزارع إنطلقَ جرار زراعي من بوابة متجر مفتوح يعرض أمام واجهته الطويلة آلات زراعية عديدة، وينتصب على جانبيه خزانين كبيرين للماء، وفي الخلف يظهر برج كنيسة إحدى القرى بقمته المثلثة الداكنة، ووسط كل ذلك كان أحد الفلاحين منشغلاً بتفحص بعض الأدوات التي إنتشرت في كل المكان. ولم يحجب هذا المشهد سوى القطار الذي مرَّ بموازاتنا نحو الإتجاه المعاكس، بعرباته المكشوفة والمحملة بجذوع الأشجار التي قطعت بأحجام متساوية، حيث إنسجمَ لون الخشب البني مع طبقات الصدء التي بانتْ على حافات العربات القديمة. إفترقنا عن قطار الخشب، وما أن بدأت بشطيرتي الثانية، حتى إنتبهتُ في الخارج لمزارع ذرة تمضي مع القطار وكأنها لا تريد أن تنتهي، كانت مسيجة بأعمدة خشبية متباعدة، تحاذيها بيوت زجاجية امتلأت بالنباتات التي لا تقوى على مواجهة الشمس.
القطار يمضي والتفاصيل تتجدد وتتبعثر على الجانب وكأني أمام معرض تشكيلي أو عرض لا نهائي لجمال الريف وبهجة الحياة البسيطة الهانئة. وقد حاولتُ وسط كل ذلك أن لا أنظر الى التفاصيل فقط، بل أعيش معها وأتنفس هواؤها رغم زجاج النافذة الذي يفصلني عنها. بعد هذه المشاهدات حاولتُ أن أمنح نفسي مكافئة صغيرة، لذا قررتُ الإجهاز على الشطيرة الثالثة مع قدح من القهوة. ويبدو أن القطار قد قرر هو الآخر أن يمنح نفسه مكافئة مناسبة، حيث إرتفعَ فوق بعض التلال، وهذا ما جعلَ القرية الصغيرة التي ظهرت فجأة تبدو كأنها تنخفض شيئاً فشيئاً حتى صارت خارج الرؤية، عدا بعض أكواخها البعيدة في الخلف. إجتزنا التلال وبدأ القطار يقترب من الحدود الألمانية وهو يتهادى على بساط الطبيعة الأخضر.
يتبع