الرئيسية > أعمدة واراء > دونالد ترامب: نبوءة الهيمنة أم وهم العظمة؟

دونالد ترامب: نبوءة الهيمنة أم وهم العظمة؟

نشر في: 2 فبراير, 2025: 12:05 ص

أحمد حسن

في مشهد لافت ورمزي للغاية، جرت مراسم تنصيب دونالد ترامب في مبنى الكابيتول في 20 يناير 2025 كحدث أشبه بطقس مسرحي يمزج بين الأسطورة السياسية والخطاب الديني.الحدث، المشبع بخطاب إنجيلي متجذر في المخيال البروتستانتي، استحضر رموزًا كالنبي موسى وسليمان، حيث تم تصويرهما كتشبيهات لسلطة إلهية مُكلفة بقيادة أمريكا. ترامب، في خطوة محسوبة، بدأ فترته الرئاسية بصلاة، قبل أن يؤدي القسم وكأنه يبرم عهدًا مقدسًا مع شعبه.
ثم، في أجواء شبه نبوية، أطلق شعاره الشهير: "أمريكا أولاً". في هذه اللحظة، لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل نصّب نفسه كنبي لأمة مختارة، مُكلّف بمهمة سامية لاستعادة العظمة الأمريكية.خطابه كان زاخراً برؤية لاهوتية ترى في مصير أمريكا تجسيدًا لعناية إلهية. وتحت إدارة ترامب، أصبحت هذه الفكرة ذات بُعد أكثر إمبريالية: لم تعد أمريكا مجرد أمة، بل كياناً مقدساً ومنارة تُعيد تنظيم العالم وفقاً لرؤية الرئيس الجديد.
في هذا السياق، يصبح "العالم الشرير"، كما تراه الأيديولوجيا المحافظة الأمريكية، عالماً لا يمكن ضبطه إلا عبر هيمنة القوة الأمريكية المطلقة، باعتبارها الضامن الوحيد للنظام العالمي وفقًا لرؤية ترامب. لكن خلف هذه الهالة النبوية، تكمن حقيقة سياسية قاسية. بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط، كان خطاب ترامب أشبه بعودة صدى السياسات الإمبريالية التي أثرت على المنطقة لعقود. بعض الأنظمة رأت في هذا الخطاب فرصة للبقاء، ساعيةً للحماية تحت مظلة الهيمنة الأمريكية المتجددة.
في المقابل، نظر آخرون إلى هذا الخطاب كاستمرار للغطرسة الإمبريالية التي تختزل الشعوب إلى مجرد أدوات في مسرح عالمي تسيطر عليه واشنطن. أما أوروبا، فقد استقبلت خطابه بمزيج من السخرية والقلق. ففي كلمات ترامب، قرأت أوروبا نوعًا من الاستعلاء شبه الكاريكاتوري، ممثلاً بـ"راعي البقر" الذي يرى العالم كمرعى للاستغلال.
الاتحاد الأوروبي، الذي يُعتبر معقلاً للعقلانية المستمدة من عصر التنوير، وجد نفسه في مواجهة خطاب مبسط يهدد بتكرار الأخطاء المدمرة التي ارتُكبت في أماكن أخرى، خاصة في الشرق الأوسط. رسالة وزير خارجيته، التي أعلن فيها أن "السلام يتحقق بالقوة"، تعكس عقيدة تستبدل الدبلوماسية بمنطق القوة الصرفة، ما يلغي أي إمكانية للحوار.
ترامب يمثل مرحلة مثيرة في تاريخ الهيمنة الأمريكية: مزيجاً من الاستمرار العنيف والانقطاع الواضح. شخصية "راعي البقر"، التي تطغى على خطابه وحركاته، ليست مجرد كاريكاتير ثقافي. إنها تجسد رؤية قديمة للسلطة، قائمة على الهيمنة المطلقة ومنطق ثنائي: إما أن تغزو أو تُغزى، تفرض أو تُفرض عليك. هذه النظرة، رغم شيوعها في التاريخ الأمريكي، تعكس أزمة وجودية عميقة داخل الأيديولوجيا السياسية للولايات المتحدة، حيث يصبح تأكيد القوة رد فعل قهريًا لعالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد.
في ظل قيادة ترامب، تسعى أمريكا ليس فقط لتأكيد قوتها، بل لإعادة إحياء خيال إمبريالي عفا عليه الزمن، تصورها كأمة مُكلّفة بمصير شبه إلهي. خطاب التنصيب لعام 2025، المشبع بالإشارات الدينية ووعود العظمة، يكشف محاولة لإحياء فكرة "القدر المُحتّم"، ذلك المفهوم من القرن التاسع عشر الذي كان يبرر التوسع الإقليمي والهيمنة الثقافية الأمريكية. لكن في عالم معولم تزداد فيه التشابكات الاقتصادية والجيوسياسية، يبدو هذا الموقف أكثر انحرافاً عن الواقع.
تشير استعارة "راعي البقر" هنا إلى عقلية ترفض التعقيد وتفضل المواجهة على التفاوض. في هذا الخيال، العالم مرعى واسع مليء بالمخاطر، وأمريكا هي الحارس الذي لا يخطئ، القادر الوحيد على ضمان النظام. لكن هذا الأسطورة، رغم جاذبيتها ببساطتها، لم تعد صالحة أمام الحقائق المعاصرة. فهي تخفي ضعفاً بنيوياً: عدم قدرة القوة العظمى الأمريكية على التعامل مع التحديات العالمية بغير القوة المفرطة.
شعار "السلام من خلال القوة"، الذي يُعد الشعار الضمني للترامبية، يكشف عن تناقض جوهري. في نظام دولي تتسم تحدياته بالطابع المشترك – مثل التغير المناخي، الأوبئة، والهجرة – فإن البحث عن حلول أحادية الجانب وقسرية لن يؤدي إلا إلى زيادة التوترات. والتاريخ الحديث، من العراق إلى أفغانستان، يثبت أن استخدام العنف كأداة رئيسية للدبلوماسية لا يؤدي إلى الاستقرار، بل إلى دورات لا تنتهي من التدمير وإعادة البناء.
ترامب، بإعادة إدخال هذه المنطقية، يتجاهل عن عمد دروس الماضي. إنه يحول العلاقات الدولية إلى ساحة مواجهة دائمة، حيث الهدف ليس البناء، بل الهيمنة. هذه المقاربة، رغم تحقيقها مكاسب قصيرة الأمد، غير مستدامة على المدى الطويل. فهي لا تعمل إلا على تسريع تآكل النفوذ الأمريكي، من خلال تعزيز المقاومة ضد هيمنتها، سواء على المستوى الحكومي أو داخل المجتمعات المدنية.
بالنسبة لأوروبا، يمثل وصول ترامب منعطفاً حاسماً. القارة القديمة، التي طالما اعتُبرت حليفًا طبيعيًا للولايات المتحدة، تجد نفسها في مواجهة مع أمريكا لا تخفي ازدراءها لتعقيدات الدبلوماسية. المؤسسات الأوروبية، التي بُنيت على أنقاض الحروب العالمية، طالما اعتبرت نفسها حصناً ضد إفراطات القومية والأحادية. لكن أمام أمريكا الترامبية التي ترفض هذه المبادئ، تواجه أوروبا خياراً صعباً: إما اتباع حليفها التاريخي بشكل أعمى، أو تأكيد نفسها كقوة موازنة ذات مصداقية.
هذا الخيار يزداد تعقيدًا بسبب انقسامات أوروبا نفسها. فبينما تميل بعض الدول الأعضاء، المغرمة بوعد الحماية الأمريكية، إلى تبني خطاب ترامب، تسعى دول أخرى لتعزيز استقلالها الاستراتيجي. هذا الانقسام يعكس سؤالاً أوسع: هل يمكن لأوروبا أن تصبح فاعلاً عالمياً مستقلاً، قادراً على تقديم رؤية بديلة للعالم، قائمة على التعاون والتضامن؟
التاريخ يعلمنا أن الإمبراطوريات القائمة على الهيمنة مصيرها دائمًا الزوال. القوة المفرطة، مهما بدت هائلة، لا تكفي لضمان هيمنة دائمة. وترامب، في سعيه لاستعادة العظمة الأمريكية، قد يسرّع من زوالها. فمن خلال محاولته فرض رؤية أحادية وعدوانية، يعزز قوى التشرذم، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها.
لكن هذه الأزمة قد تمثل أيضاً فرصة. في مواجهة غطرسة ترامب، قد تنبثق ديناميكيات جديدة تقودها دول وحركات عازمة على إعادة تشكيل النظام العالمي. هذه القوى، سواء كانت دولاً أو منظمات غير حكومية، ترفض الانصياع لمنطق القوة، وتدعو لنماذج بديلة، أكثر شمولية واستدامة.
يبقى ترامب يمثل أقل من نبوءة وأكثر من تحذير. رؤيته للعالم، المرتكزة على الهيمنة وازدراء الآخر، هي طريق مسدود. لكن من خلال كشف حدود هذا النهج، قد يسهم، بشكل غير مباشر، في ظهور نظام دولي جديد، أكثر عدلاً واحتراماً للتنوع. يبقى السؤال هو ما إذا كان العالم سيتمكن من اغتنام هذه الفرصة قبل أن تترك أوهام ترامب العظمى جراحاً لا تُشفى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المحافظات التي عطلت الدوام الأحد بسبب الأمطار

تأجيل 4 مباريات في الدوري العراقي بسبب الأمطار

خامنئي يرد على ترامب: لن نفاوض تحت الضغط

قائممقام القائم: الحدود العراقية السورية مؤمّنة بالكامل ولا تهديد للأمن الوطني

تركيا تحذر من تحول أحداث اللاذقية إلى تهديد للسلام في سوريا

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: براءة نور وتابعه هيثم !!

العمود الثامن: نشيد عالية وأخواتها!!

الذين يتمسحون بأذيال السيستاني

العمود الثامن: ألف حزب وحزب

العمود الثامن: من أين لك هذا ؟

العمود الثامن: من أين لك هذا ؟

 علي حسين ينظر المواطن المسكين مثل جنابي الى بلده العراق ، ويشعر بالأسى على بلدٍ كان يراد له أن يلتحق بقطار العصر، فارتدّ بهمّة خطب سياسييه، إلى الوراء، إلى مجرد احزاب سياسية تضحك...
علي حسين

كلاكيت: كيليان مورفي وأشياء صغيرة كهذه

 علاء المفرجي مثل مواطنه دانيال دي لويس، جاء الممثل الايرلندي "كيليان مورفي" الى السينما من بوابة المسرح، ومثل لويس تماما كتب أسمه بحروف ناصعة بين ممثلي السينما الكبار منذ أول دور له، حتى...
علاء المفرجي

الصوم.. في التحليل السيكولوجي

د.قاسم حسين صالح انشغل علماء النفس بدراسة الصوم بيولوجيا وسيكولوجيا وانتهوا بموقفين متضادين: ألأول، يتبناه كتّاب وأطباء نفسانيون عرب،يرون ان الصوم يؤدي الى انخفاض مستوى الجلوكوز في المخ،فينجم عنه اضطراب في عمل الدماغ، واختلال...
د.قاسم حسين صالح

إرباك هائل بسبب دراسة خاطئة

إبراهيم البليهي ليس أسهل من دفع الناس في اتجاه الخطأ خصوصا إذا خوطبوا باسم العلم والبحث العلمي وتم تخويفهم بأن صحتهم في خطر.. ففي عام 1951 نشر الباحث الأمريكي أنسيل كيتس دراسة زعم أنه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram