TOP

جريدة المدى > عام > الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

نشر في: 2 فبراير, 2025: 12:15 ص

د. نادية هناوي
يؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام في إنشاء محتوى أدبي، يشجع على التشارك بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي. وعلى الرغم من ذلك، فإن أسئلة كثيرة تثار حول الأدب الذي يتم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي، وبعض من تلك الأسئلة يتعلق بالأصالة، وبعضها الآخر يتعلق بحقوق التأليف والملكية الفكرية. وتشير التوقعات إلى أنه مع استمرار تسارع الابتكار التكنولوجي، سيتأثر الأدب بشكل كبير، وسيصبح للفعل التقني العام دور في صنع محتويات نصية اصطناعية، تزعزع شكل الأدب العالمي وأساليبه وتدفع نحو تغييرات في كثير من مجالاته. وهذا ما يستدعي إعادة تقييم المفاهيم التقليدية لاسيما مفهوم النص والمؤلف والقارئ مع ضرورة اخضاع الأدب الاصطناعي إلى الفحص والاختبار. وكلما تطورت إمكانيات الذكاء الاصطناعي، غدت عمليات التقييم والفحص والاختبار أكثر إلحاحا وأهمية.
هذا ما يؤكده الباحث "يان هو" Yan Huفي دراسته المعنونة(الأدب في عصر الذكاء الاصطناعي: دراسة أولية في النموذج اللغوي الكبير للذكاء الاصطناعي) والباحث أستاذ في كلية الإدارة بجامعة ستيرلنغ البريطانية ومن المهتمين بفحص واختبار نموذجين لغويين متطورين من نماذج الذكاء الاصطناعي هما GPT-4O و BERT، بقصد معرفة قدرة كل واحد منهما على الإنتاج الأدبي.
ويتوقع الباحث "Hu" في هذين النموذجين قدرات هائلة ستجعل أساليبهما في الكتابة واختيار المفردات تتشابه مع أساليب الإنسان، وسيؤدي ذلك إلى إحداث ثورة في الكتابة الإبداعية في المستقبل. وهذه التوقعات مبالغ فيها ومشكوك في إمكانية تحققها، أولا لأن احتمالية إنتاج أنواع أدبية وأساليب فنية جديدة في المستقبل سيظل رهنا بالذكاء البشري. وثانيا أن التطورات في مجال صناعة الأدب بالذكاء الاصطناعي التوليدي ما تزال محدودة كونها لا تقوم على الفهم، وإنما محاكاة الخصائص اللغوية والمنطقية للمواد النصية البشرية المنتجة والمودعة في الشبكة العنكبوتية، وتوليد نصوص جديدة تكون مقنعة وصحيحة، تتوافق في إخراجها مع طرائق التعبير البشري وتبعا لخبرات المستخدم.
ويبني الباحث توقعاته المستقبلية المتفائلة على ما يسمى بـ(الهدم الإبداعيCreative destruction) كعملية بها يتعزز الابتكار التكنولوجي عبر التحول الاصطناعي من القديم الى الجديد فيكون الذكاء الاصطناعي أداة مهمة ومحركا رئيسا في التنمية، بها تتضح تأثيراته في إنشاء المحتوى الإبداعي. ولا شك في أن لعملية الهدم الإبداعي آثارا إيجابية وسلبية، فهل تناولها الباحث بالشرح والتفصيل؟
لم يوجه الباحث " Hu" اهتمامه سوى إلى مستقبل هذه العملية، وكيف أنها ستتطور مع تطور الذكاء الاصطناعي وتقدم نماذجه التكنولوجية، مفترضا أنَّ التطور المستمر في التقنيات الذكية ودمجها في العملية الإبداعية، سيزيد من تأثير الذكاء الاصطناعي في الكتابة الإبداعية عموما والأدبية وجه خاص، وسيكون موضوع "الهدم الإبداعي" الناتج عن الذكاء الاصطناعي موضوعا مهما يثير التحديات ويفتح الفرص أمام الأدب لإقامة المزيد من العلاقات الثقافية التبادلية مع التكنولوجيا الرقمية. بيد أن مساعي علماء الذكاء الاصطناعي الموجهة نحو تطوير خوارزميات هذا الذكاء، ما تزال تواجه تحديات كبيرة باتجاه إنتاج المحتوى الأدبي والكتابة الإبداعية.
وأشار الباحث "Hu" إلى أنه حين بدأ بكتابة بحثه -قبل نصف عام من نشره- كانت نماذج GPT قد أصدرت جيلها الثالث(GPT-3) ويجد في هذا التقدم المتسارع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي إمكانيات جديدة ستعيد تشكيل صناعة الإبداع بسرعة كبيرة أيضا باستعمال عملية الهدم الإبداعي من قبيل إنتاج محتوى أكثر كفاءة أو ابتكار أشكال جديدة في الأدب او صناعة تقنيات سردية في كتابة الرواية. وأكد أن هذا الذكاء مع تطور التكنولوجيا في المستقبل، سيتمكن من توفير مسارات جديدة لأولئك الذين يعانون من إعاقات جسدية. بالإضافة إلى أنه سيزيل الفروق الكبيرة بين اللغات المختلفة، وافترض أن ذلك كله سيتحقق فجأة يومًا ما في المستقبل، وستكسد سوق الأدب وتغيب الأدوار الإبداعية التقليدية وسيتراجع ميزان القوى الإبداعية، ويفقد العاملون في مجال تسويق الأدب فرص العمل.
والسؤال الذي يفرض نفسه أمام هذا الكم من التوقعات المهولة حول قدرات الذكاء الاصطناعي في مجال الإبداع الأدبي: كيف يكون للهدم الإبداعي الذي فيه تلعب التكنولوجيا دورًا مركزيًا أن يكون منتجا لإبداع أدبي ذي تأثيرات انفعالية ولذة جمالية ومشاعر عاطفية؟
لم يتطرق الباحث "Hu" إلى هذه التأثيرات ولا إلى الكيفية التي بها يقوم الذكاء الاصطناعي بكل ما تقدم، بل ظل يدور حول عملية الهدم الإبداعي وأنها هي المحفزة على التغيير والتطوير باتجاه انتاج أعمال جديدة أو إعادة تكوين ما هو قديم منها، مما يؤدي إلى تحولات في صناعة الأدب وديناميات المنافسة في إنتاجه، مما يعمِّق فهم الجمهور ويساعد في ظهور موضوعات وأساليب جديدة، تُلبي احتياجاته الاجتماعية والفكرية. ولا يخفى ما في هذا التوصيف من عمومية كونه ينطبق على مختلف صنوف الإبداع البشري. فمنذ القدم والأدب في حالة تطوير وتغيير مستمرين وما من عصر من العصور الأدبية إلا وفيه تطورات وتحولات أدبية عامة وخاصة. وفي العصر الحديث كان للتكنولوجيا دور مساعد في عالم الأدب، وبها ارتهن عامل الإنتاج الكمي والتوزيع والتسويق والاستهلاك. أما على مستوى التطور النوعي وإحداث تغييرات حقيقية، فإن الرهان ظل معقودا على ما للأديب من موهبة فطرية وخبرة مكتسبة ووعي نقدي وتجارب أدبية خاصة.
ويذهب " Hu" إلى أن الكتابات الأدبية المنتَجة بالذكاء الاصطناعي، مصمَمة بشكل يجعلها تتكيف مع متطلبات الجمهور، وأن محتوى هذه الإبداعات الأدبية قد يتضمن عناصر يصعب على الكتّاب البشريين إنتاجها، بيد أنه لم يقل ما هي تلك العناصر؟. وإذا كان يقصد بالعناصر وجهات النظر الجمالية والمسائل الفلسفية المتعلقة بالمجتمع، فإنها جزء من البيانات الضخمة التي هي حصيلة ما تمكن البشر من إنتاجه على مدى آلاف السنين، وأغلبه مودع في الشبكة العنكبوتية وعليه تتغذى نماذج الذكاء الاصطناعي.
ولعل أكثر توقعات " Hu" اعتدالا وأهمية هي التي جاءت في الجزء الأخير من دراسته وفيها ركَّز على مسألة الملكية الفكرية، وكيف أنّ زيادة إنتاج الأدب بواسطة الذكاء الاصطناعي، سيجعل كثيرا من الأسئلة تُطرح حول ملكية المؤلف لأدبه وحقوق نشر الأعمال التي منشؤها الذكاء الاصطناعي، وهو أمر يحتاج إلى مزيد من المناقشات بين الأوساط القانونية والأدبية.
ويرجع الباحث السبب إلى صعوبة رسم خط فاصل بين المحتوى الذي يتم إنشاؤه بواسطة الإنسان وتلك التي تنتجها الآلة، ويتساءل: إذا قدم شخص ما مخططًا لرواية خيال علمي وطلب من الذكاء الاصطناعي مساعدته في عملية الكتابة وملء الفراغات، فهل يُعتبر العمل المنتج إبداعا أصيلا أم عملا مشتقا؟ وهل تؤهله الأصالة لأن يكون متمتعا بحقوق الملكية ومكفولا باللوائح المنصوص عليها في القانون؟ ويعقب بالقول:(هنا يظهر التحدي المتنامي في النقاش المتعلق بالأعمال الادبية التي ينتجها الذكاء الاصطناعي. وبالعموم، لا تعد هذه الأعمال أصلية من تأليف البشر. وهذا ما يُعيق حماية إبداعات الأدباء التي ساعدهم الذكاء الاصطناعي في إنشائها أو النسخ غير المصرح لها، مما يؤثر في إدارة النشر والتوزيع).
ولا ينكر " Hu" أن زيادة استخدام الذكاء الاصطناعي في الوظائف اليومية، توجب إعادة تعريف معنى حقوق النشر بغية ضمان حماية عادلة للمبدعين. إذ لا يجوز لأي شخص استدعاء نموذج البيانات الذكي مباشرة لخدمة نفسه، وإلا فإنَّ مزيدًا من الأشخاص سينضمون إلى صفوف المبدعين اعتمادًا على ما لديهم من قدرات تمكنهم من تقليد خصائص مختلفة من الأساليب والأنواع واللغات. وهنا نسأل: ما دام الأمر تقليدا، فكيف إذن تكون هناك احتمالية عالية – كما يقول الباحث - في توسيع حدود الإبداع الأدبي في سياق لم يكن يتوقعه الكتّاب البشر؟!.
إن خلاصة ما يُعنى الباحث بدراسته هو ضرورة أن نفحص ونناقش بحذر وبشكل نقدي الفرص والتحديات التي ترافق استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الأدب وبرامجه التي تعتمد على نماذج اللغة الكبيرة مثل ChatGPT-4O، مبينا أن تطبيق هذه النماذج الكبيرة على كتابة الأدب سيثير أيضًا أسئلة مهمة حول التأليف والأصالة، واحتمال وجود تحيزات وتجانسات في المحتوى الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي. وأن التفكير الدقيق في هذه الأسئلة، يمكننا من استثمار قوة الذكاء الاصطناعي في تعزيز الإبداع البشري وخلق أدب أكثر تنوعا وابتكارا وشمولية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي
عام

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

د. نادية هناوييؤثر الذكاء الاصطناعي في الأدب بما له من نماذج لغوية حديثة وكبيرة، حققت اختراقًا فاعلا في مجال معالجة اللغة ومحاكاة أنماطها المعقدة وبإمكانيات متنوعة وسمات جعلت تلك النماذج اللغوية قادرة على الاسهام...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram