TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: الدراما البشرية بين الصفر واللانهاية

قناديل: الدراما البشرية بين الصفر واللانهاية

نشر في: 2 فبراير, 2025: 12:17 ص

 لطفية الدليمي

جلستُ أتابعُ مثل ملايين البشر مراسم تنصيب (ترامب) رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. مشاهد كثيرة في حفل التنصيب الرئاسي إستولت على الإهتمام الجمعي: قبّعة (ميلانيا) التي أخفت نصف وجهها، ضحكة (هيلاري كلينتون) الساخرة التي ربما ارادت منها ردّ سخرية الجمهور منها عند دخولها قاعة التنصيب،،،إلخ. من جانبي تابعتُ مشهداً لا أظنّه تكرّر من قبلُ: إجتماعُ أباطرة التقنية من رأسماليي الذكاء الإصطناعي والتقنيات الرقمية ومنصّات التواصل الإجتماعي العالمية معاً. كان المشهد فريداً في نوعه، كان أقرب لإعلان آيديولوجي مؤكّد بأنّ جبهات الرأسمالية التقنية المتقدّمة تجتمعُ مع اليمين الجديد في نسخته الترامبية التي صارت مدرسة مميزة في اليمين الجديد. كيف إجتمعا معاً؟ كلّ شيء ممكن في عالمنا ولا إستحالة لأي شيء. هذا هو القانون الأكبر.
وأنا أتابعُ مشهد إجتماع أباطرة المال معاً مضيتُ أفكّرُ: كم من المشاهدين في شتى بقاع العالم يتطلّعون لإمتلاك بعض ما يمتلكه هؤلاء؟ كثيرون ربّما قالوا في سرّهم: ما أسعدني لو إمتلكتُ واحداً بالمليون ممّا يمتلكه أفقرُ هؤلاء!! أقول (أفقر) بمقاييس المقارنة النسبية في أقيام الثروة التي يمتلكون. أفقرُ هؤلاء تتجاوز ثروته عتبة المائة مليار من الدولارات، ومن المؤكّد أنّ بينهم من يسعى لتحقيق أسبقية التحوّل إلى (التريليونير) الأوّل في العالم. لنتذكّرْ: الترليون = ألفاً من بلايين الدولارات.
للمرء الحقُّ في الحلم بما يشاء. ربما لن يفكّر من يحلم بثراء يهبط عليه كما الصاعقة بأنّ الحياة مصمّمةٌ بطريقة الثنائيات المتعاكسة. لن يصدّق كثيرون أنّ من يملك الكثير (الكثير الذي يناظر اللانهاية) هو كمن يملك صفراً من المال. كلّ دراما الوجود الإنساني مكتوبة في نطاق هذه الثنائيات الممتدّة بين الصفر واللانهاية. الأمر ليس مقتصراً على المال. كلّ شيء قابل للتملّك في الحياة ينقادُ لهذا القانون. هل ثمّة عقلٌ كوني صمّم هذه المقايسة؟ ربّما. من جانبي أعتقد كما الصوفيين بوجود مثل هذا المصمّم الأعظم.
لنتناولُ (إيلون ماسك) مثالاً. هذا الرجل لن يستعصي عليه إمتلاك أي شيء مادي في هذه الحياة. يكفي أن ينطق بما يريد وسيتكفّلُ مصباح علاء الدين السحري بإحضاره له في أسرع وقت. قد يكون هذا الشيء كافياراً من روسيا أو رداء حرير (كيمونو) من اليابان أو قطعة ماسية نادرة من مزاد سوثبي في لندن. هنا فكّرْ معي: ما الذي يمكنه إدهاشُ ماسك وملء قلبه بدهشة غير مسبوقة؟ أؤكّد لك: لا شيء. في مقابل مثال (ماسك) تخيّلوا معي كائناً بشرياً معدماً لا يمتلك شيئاً في هذه الحياة. لو أنّنا عرضنا عليه وجبة ساخنة في يوم صقيعي بعد حمّام ساخن في منزل عادي من منازل أحد المنتمين للطبقة الوسطى، كيف ستكون ردّة فعله؟ سيصبحُ دماغه وجسده ميداناً لأنسياب كميات هائلة من النواقل العصبية المسببة للشعور بالسعادة. أما لو عرضت للشخص ذاته سيارة ومنزلاً مجانيين فلن يصدّق للوهلة الأولى وسيظنُّ أنّ الأمر لا يعدو حكاية من حكايات (ألف ليلة وليلة) الأسطورية.
الأمر كلّه يختصُّ به (جهاز المكافأة Reward System) في أدمغتنا. يبدو هذا الجهاز في أدمغة البشر (الصفريين) وكأنّه جديد لم يُمسّ؛ لذا تكون إستجابته الأولى عنيفة بقدرة جامحة هي نتاجُ اللذة الأولى؛ أمّا من إعتاد عيش اللذّات فهو كمن يقامرُ بإعطاب جهاز المكافأة في دماغه. لن تفيد الجرعة الزائدة من اللذّة في تنشيط جهاز معطوب؛ بل قد تقودُ إلى الهلاك كما يحصل في الجرعات الزائدة من المخدّرات. ربّما أخذنا العجبُ من ردّة فعل (ماسك) عند سماعه (ترامب) وهو يعلنُ عن المهمّة الأمريكية المريخية. جاءت ردّة فعله -كما أحسب- إنقاذاً له من عيش حياة يستطيع فيها الحصول على كل شيء وأي شيء بإشارة بسيطة من يده. هو أراد مهمّة تبدو معقّدة من الناحية التقنية وبعيدة المدى في القياس الزمني، أرادها مهمّة لها القدرة على إحتواء كلّ حياته القادمة حتى لا يقع فريسة الخواء وعيش حياة مسطّحة باردة. أراد (ماسك) بعض السيروتونين والإندورفين يسريان في دماغه وجسده ولم يكن مهتما بتقليد حركات (هتلر) النازية، مثلما لم يكن في باله أن يكون لولباً صغيراً في دعاية (ترامب) الآيديولوجية عن أنّ أمريكا لا ترتضي إلّا بالمستحيل سقفاً لطموحاتها.
هذا الفهم لآلية عمل جهاز المكافأة في أدمغتنا ليس بالحقيقة المعلنة التي نقبلها قبولاً ناجزاً في كلّ أطوار حياتنا. كلّ منّا يرتقي في حياته ويشهد في سياق هذا الإرتقاء إنعطافات مفصلية مؤثّرة. أغلبنا ممّن يعيشُ حياة معقولة غير منسحقة تحت وطأة الفقر المدقع أو التملّك الفاحش بوسعه أن يتحسّس منعطفيّْن خطيرين في حياته: الأوّل فكري يحصل بعد سنّ الأربعين حيث يشهد بعض البرودة في جذوة بركان الأفكار المستعرة في داخله بما يجعله أكثر هدوءاً وتفكّراً، والثاني وجودي يحصل بعد الستين حيث يعيد بناء تصوّراته عن الوجود والعيش والنهاية (الموت)، وغالباً ما يتخلّل هذا العيش بعضٌ من النكهة الرواقية. لن نتوقّع بالطبع أن تكون رؤية المرء إلى آلية عمل جهاز المكافأة فيه واحدة في كلّ أطوار حياته. الرؤية الأفضل غالباً ما تحصل بعد الستين بعد أن يرى المرء أكثر، ويختبر الحياة أكثر، ويجري مقارنات أكثر، ويعيد ترتيب حساباته.
ليس المال وحده هو المخصوص بمقايسة ثنائية (الصفر/ اللانهاية) وإشكالاتها الكبرى. الزمن مثالٌ ثانٍ. تخيّلْ لو كنتَ كائناً خالداً ممتدّاً في الزمن: ما الذي سيعنيه الإنجاز لديك؟ ستكونُ أمثولة نموذجية للشخص الذي يعتاد التأجيل وعدم الإنجاز. لماذا تنجز عملاً و أمامك الزمن مفتوح النهايات؟ ستغرق حينها في بحر من الكسل المفضي إلى البلادة. أظنّه هذا هو السبب الذي يجعل معظمنا يتحسّسُ مفاعيل الزمن ويشحذ همّته لإنجاز ما لم ينجزه كلّما تقدّم به العمر. (إدغار موران) أحد الامثلة. جاوز عمره السنتين بعد المائة ولم يزل ينشر كتاباً مهمّاً كلّ سنة منذ أن بلغ السبعين، وهو ما لم يفعله في شبابه. كان (كازانتزاكيس) مثالاً أكثر تطرّفاً من (موران)؛ فبعد أن أصابه مرضٌ قاتل وعرف نهايته الوشيكة كتب أنه يتمنّى إستدانة بعض الدقائق من حياة كلّ من يعرف من البشر حتى يستطيع كتابة كلّ ما يريد من أفكار تجول برأسه. لم أفكّرْ من قبل بإنسان لا يمتلك زمناً. كائن زمني صفري. ربما سيكون مشروعاً لرواية غير مسبوقة. الزمن الصفري يوجد في حالة الثقب الأسود. مثلُ هذا (الكائن- الثقب الأسود البشري) لا ذاكرة له. أهو كامرا بشرية تسجّلُ الأحداث فحسب؟
كلّ دراما الوجود البشري يمكنُ ردّها إلى عناصر مادية أو غير مادية، توجد على مقياس ما بين الصفر واللانهاية، ويبدو أنّ (المصمّم الأعظم) لهذه الحياة أراد لكلّ منّا أن يكتشف سرّ وجوده فوق الصفر وتحت اللانهاية. لا وصفةَ جاهزةٌ للجميع. عليك أن تكتشف وصفتك بجهدك الخاص، والأهمّ من هذا لا تنظر بحسدٍ لمن زادت حظوظه من الإقتراب نحو اللانهاية.
الصفر واللانهاية مميتان، وما بينهما توجد أشكال لا نهائية من الحيوات البشرية الحزينة والأقلّ حزناً (لا أقول السعيدة). لا تختر الموت عند الحافات القصية، ثمّ بعد هذا عش حياتك بأفضل تستطيع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: بروتوكولات مقهى ريش

العمود الثامن: جيوب نظيفة!!

العمود الثامن: الفشل بامتياز

الديمقراطية..لا تصلح لشعب يحكمه فاسدون

قناطر: كسل وغباء "رأس المال" العراقي

قناديل: الدراما البشرية بين الصفر واللانهاية

 لطفية الدليمي جلستُ أتابعُ مثل ملايين البشر مراسم تنصيب (ترامب) رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. مشاهد كثيرة في حفل التنصيب الرئاسي إستولت على الإهتمام الجمعي: قبّعة (ميلانيا) التي أخفت نصف وجهها، ضحكة (هيلاري كلينتون)...
لطفية الدليمي

قناطر: بائعو الخواتم القبيحة

طالب عبد العزيز تتوقف سيارة الميني باص في التقاطع، ويتأخر ضوء إشارة المرور الأخضر فيكثر الشحاذون وباعة المحارم وماسحو الزجاج ثم يتوقف رجل بهيئة مختلفة، يحمل بيده عدداً لا يحصى من خواتم، تبدو من...
طالب عبد العزيز

التعليم العالي في العراق.. شهادات من الواقع

محمد الربيعي الى كل من يعنيه امر التعليم العالي ومستقبل العراق، من اعلى سلطة في الدولة الى اعضاء الهيئات التدريسية والطلبة الاعزاء: ان ما ورد في هذه الرسالة ليس مجرد كلمات، بل هو صرخة...
د. محمد الربيعي

دونالد ترامب: نبوءة الهيمنة أم وهم العظمة؟

أحمد حسن في مشهد لافت ورمزي للغاية، جرت مراسم تنصيب دونالد ترامب في مبنى الكابيتول في 20 يناير 2025 كحدث أشبه بطقس مسرحي يمزج بين الأسطورة السياسية والخطاب الديني.الحدث، المشبع بخطاب إنجيلي متجذر في...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram