TOP

جريدة المدى > عام > "مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

نشر في: 3 فبراير, 2025: 12:21 ص

د. خالد السلطاني
معمار وأكاديمي
عندما يذكر اسم "كينزو تانغا" (1913 - 2005) Kenzō Tange، تحضر "العمارة اليابانية" مباشرة في الفكر وفي الذاكرة، فهذا المعمار المجدـ استطاع عبر عمل استمر عقوداً من السنين المثمرة ان يمنح العمارة العالمية "وجهاً" آخراً: وجها متفرداً ومميزا.. وضرورياً حتى لذلك المنتج الابداعي الحصيف الذي سعى رواده ان يكون "بمظهر" واحد ذات سحنة موحدة، وأعني، بالطبع، "عمارة الحداثة" وبزوغها اللافت في المشهد المعماري الحديث عند عشرينات القرن الماضي. تنبع اهمية اضافة "تانغا" بكونه استطع ان يلوّن ذلك الاسلوب المعماري المميز بمقاربة جديدة تعود مرجعيتها الى خصائص "العمارة الوطنية او الاقليمية"، والتى بدت مقاربتها المميزة تظهر بجلاء في الخطاب المعماري وفي مشهده ايضاً!
في الفترة المبكرة من نشاطه الابداعي، حاول "كينزو تانغا"، وليس من دون نجاح، التوفيق بين المفاهيم المعمارية الوظيفية (الاوربية على وجه الخصوص) مع التقاليد المعمارية المحلية اليابانية. وفي هذا الصدد طرح فكرة استمرارية وديمومة العمارة، التى لا تعتمد على نسخ الاشكال المحلية وتقليدها، وإنما على التطوير الاضافي لاسلوب محلي محدد بالتفكير المكاني. في النصف الثاني من الخمسينات، وبعد ان ادرك بعمق افكار لو كوربوزيه (1887 -1965) Le Corbusier، هو الذي لطالما كان مفتوناً بها منذ إن كان فتىً يافعاً، اعاد "تانغا" التفكير في الاسلوب الوظيفي الذي سيق وإن تبناه، ووصل الى استنتاج مفاده بانه يتعين عليه تصحيح تلك الفرضية المنتشرة في اوساط مهنية واسعة بان "الشكل يتبع المضمون"، مقترحا مقاربة جديدة تنم عن إعتراف ضمني بالتماثل فيما بينهما. ومنذ تلك الفترة امسى نتاج "كينزو تانغا" موسوماً بتلك الخاصية لتلك المقاربة المعمارية التى اصطفاها. نلاحظ ذلك في المشاريع المنفذة من قبل المعمار الياباني المعروف في نهاية الخمسينات وفي الستينات. بيد ان التقصي الابداعي الدائم في مسيرة "كينزو" لن يقف عند هذا الحد فقط؛ وإنما سعى وراء ايجاد لغة لمفهوم معماري جديد دُعي بـ "الميتابوليزم" Metabolism، وهو مصطلح يعني بنمو الكتلة المعمارية وتطورها الخاص بها، انه في معنى من المعاني يماثل مصطلح Ontogeny "تطور الكائن الفرد" (وفقاُ لصاحب قاموس المورد). فدراسة مشاكل المجتمع الحديث قادت "كينزو تانغا" الى إستنتاج حول الحاجة لفهم العمارة كبيئة اصطناعية، تتكيف مع واقع متغير وديناميكي. وعلى هذا الاساس طرح "تانغا" مع آخرين فكرة "الميتابوليزم " Metabolism للهياكل المكانية المتغيرة ديناميكياً، والتى يمكن بها تلبية احتياجات التمنية الاجتماعية. لكن علينا ان لانخلط بين "الميتابوليزم " وبين مفهوم "العمارة العضوية" او اسلوب " ايكو –تيك" Eco-Teck <التكنولوجيا البيئية>، والتى من خلالها لا يمكن محاكاة الطبيعة الحية زمنيا، وانما يتم التأثير في الغالب الاعم على المبادئ لوحدها.
ولد "كينزو تانغا" في عام 1913 في مدينة سكاي باليابان، وترعرع في قرية "اماباري" بجزيرة شيكوكيو Shikoku. درس العمارة في جامعة طوكيو وتخرج عام 1938. انضم الى مكتب المعمار الياباني الشهير " كونيو مايكاوا" (1905 -1986) Kunio Maekawa، ومنه تعمقت معرفة "كينزو" بمنتج لو كوربوزيه، ذلك لان "مايكاوا" كان قد عمل في مكتب لو كوربوزيه في باريس وساهم في نشر مبادئ عمارة الحداثة (وتجلياتها في التيار الوظيفي بصورة خاصة، وفي منتج المعمار الفرنسي على وجه الخصوص)، في الاوساط المهنية اليابانية.
صمم العديد من الابنية التى أُعتبرت بعضها من كنوز عمارة الحداثة، مثل "متحف هيروشيما التذكاري للسلام" (1952 -1955)، هيروشيما، و"كثدرائية القديسة ماريا"، طوكيو (1955)، وطبعا قاعة "الجيمنازيوم" للالعاب الاولمبية لسنة 1964 في طوكيو"، (1961 -1964)، ومبنى بلدية كوراشيكي" (1958 -60)، كما صمم مشروع اعادة اعمار مدينة "سكوبيا" في يوغسلافيا (1963)، بعد ان ضربها زلازل مدمر. و"متحف يوكوهاما للفن" (1989)، وصمم "معرض اوساكا الدولي لعام 1970)، و"مجمع بلدية طوكيو " (1991). وكذلك صمم "مبنى المحكمة العليا في الباكستان" باسلام آباد (1993)، وايضا "مبنى القصر الجمهوري" بدمشق/ سوريا (1975) < استقال، لاحقا، من هذا العمل في بدء اعمال التنفيذ بسبب عدم ارتياحه من بعض التغييرات التى جرت على التصميم من قبل آخرين). وقام بتصميم عدة مبانِ في السعودية منها " <مجمع مقر مؤسسة الملك فيصل الخيرية> (1982) الرياض، "القصر الملكي" في جدة (1977). السفارة اليابانية في الرياض (1985). المخطط العام لاقامة الحجاج في منى بالسعودية (1974). كما صمم "القصر الملكي" / السكن في عمان / الاردن (1983). وصمم المخطط العام لجامعة اليرموك في اربد/ الاردن (1976). وكذلك مبنى مطار الكويت الدولي / الكويت (1979).
نال "كينزو تانغا" جائزة "برتزكير" Pritzker المرموقة للعمارة عام 1987. وقد قاد مكتب تانغا المعماري، ابنه المعمار "بول نوريتاكا تانغا" (1958)، Paul Noritaka Tange الذي تخرج من جامعة هارفرد عام 1985 وانضم وقتها الى "مكتب كينزو تانغا ومشاركوه" واصبح مديرا له عام 1997، ثم اسس لاحقا مكتب "تانغا ومشاركوه" سنة 2002.
وقبل ايراد اقوال "كينزو تانغا"، والتى تعكس بشكل وبأخر "ذهنية" هذا المعمار المجدّ، اود ان اقف عند مشروع اراه هاماً جداُ في المسار الابداعي لهذا المعمار الياباني المقتدر، واراه، في الوقت عينه، ذا صلة ما مع المنتج المعماري العراقي. وهو: مشروع "متحف هيروشيما التذكاري للسلام" (1952 -1955). معلوم ان ظهور وانجاز هذا التصميم المميز اضاف سمعة دولية واسعة الى "تانغا" و منح اسمه انتشارا عالميا كبيراً.
اذ يثير توظيف شكل المفردة اللافتة والاساسية في الحل التكويني بمجمع هورشيما اصداء بصرية مع "المفردة" الرئيسية لتصميم "نصب الجندي المجهول" ببغداد، الذي صممه المعمار العراقي "رفعة الجادرجي" (1926 -2020) في ساحة الفردوس ببغداد، اوخر سنة 1958 وافتتح في تموز عام 1959. فالاصطفاء <الثيموي> الفني يكاد يكون واحداً في كلا المشروعين، وهو انتقاء عنصر "القوس" ليشكل "ضربة" التكوين وقوة نفوذه التشكيلي. والسؤال الذي يطرح في هذا المقام، هل كان رفعة الجاردجي على <اطلاع> على عمل "كينزو تانغا" مسبقاً؟ والتساؤل الذي يلي هذا السؤال، هل قام المعمار العراقي في عمله البغدادي بنشاط "تناصي" مع تصميم"مشروع هورشيما"؟! بدءًا علينا الاقرار بان عملية "التناص" Intertextuality، هي عملية ابداعية، وهي في كثير من الاحيان تثري العمل المهني وتضيف اليه مسحة خلاقة. وهي ان وقعت فعلاً، في حالة نصب الجندي المجهول البغدادي، فانها قطعاً لا تقلل من قيمة ما قام به رفعة الجادرجي. اذ انها تعد حالة من حالات "التثاقف" Acculturation المهنية المنشودة. وجواباً عن السؤال الاول، ففي ظني، ان رفعة كان، على الارجح، على علم ما مع ما انتجه "كينزو تانغا" في هذا المشروع تحديداً. فالدوريات المهنية ووسائط النشر وقتذاك كانت حافلة باخيار هذا التصميم، وابداء الاعجاب به كاحد منجزات اليابان المعمارية والثقافية. ورفعة، كما اعرفه، كان من اكثر المعماريين العراقيين الرواد ثقافة واطلاعاً ومتابعة لتصاميم المعماريين العالميين المعروفين. وفي الاحوال كافة، يبقى تصميم "رفعة الجادرجي" في ساحة الفردوس من التصاميم الابداعية التى يَعْتَزُّ بها المنتج المعماري العراقي، تماماً مثلما يَظَلُّ <قوس> "كينزو تانغا" في هيروشيما فخراً للعمارة اليابانية.. والعالمية ايضاً. (ولنا رجعة، نأمل بها، مستقبلاً، معالجة هذة الاشكالية التصميمية باسهاب، في وقت آخر وفي مكان آخر!).
ادناه، بعض الاقوال العائدة الى المعمار "كينزو تانغا"، والتى ادلى بها ضمن مسار حياته المهنية، جمعتها وترجمتها من وسائط منشورة بالغتين الروسية والانكليزية:

  • ".. يتعين على العمارة ان تمتلك شيئا ما باستطاعتها ان تثير القلب البشري، ولكن حتى في هذة الحالة يتعين ان تكون الاشكال والفضاءات اساسية ومنطقية. فالعمل الابداعي يتم التعبير عنه في عصرنا من خلال اتحاد ما بين التكنولوجيا والشعور الانساني. يتمثل دور التراث بكونه قادرا أن يكون محفزاً، تماماً، كما يفعل "المحفز" في تعجيل عملية التفاعل الكيميائي وتسريعها. من هنا قيمة اسهامه في العملية الابداعية، بيد أنه، في كل الاحوال، غير قادر لان يكون "خلاقاُ" بحد ذاته!".
  • "الإبداع المعماري هو شكل خاص من أشكال ادراك الواقع. فهو يؤثر على الواقع ويعدله من خلال بناء واقع حقيقي ذات فائدة. ومن ناحية أخرى، فإن الشكل الفني لهذا الواقع يتمتع بخاصية مزدوجة: فهو يعكس الواقع ويثريه. وهذا الفهم للواقع، والذي ينبع من الإبداع المعماري في بنيته الحقيقية والروحية، يتعين ان يؤخذ ويرى باعتبارهما كلاً واحداً. وبهذا تكون العمارة اداة توحيد بين الوظيفة والقدرة على التعبير، بين المحتوى والشكل ــ واللتان تعدان في الاخير من اسس العمارة وحقيقتها المتأصلة. إن توحيدهما واندماجهما في كل عضوي، هو في الواقع تعبير عن بنية خاصة تلبي المتطلبات المادية والجمالية. ولا يمكن الوصول إلى ذلك، الا من خلال التحليل التخميني للمادي والروحي. كما اننا لا يمكننا أن نتصور البنية المعمارية للواقع، الا عن طريق دمجها في الشكل والصورة، أي من خلال الرؤية المعمارية.".
  • "الإنسان والتكنولوجيا نحن نعيش في عالم تتعايش فيه أشياء متعارضة تمامًا: المقياس الانساني والمقياس الخارق للطبيعة؛ الاستقرار والحركة، الثبات والتنوع، الفردية وغياب الشخصية، القيود والتعددية. هذه هي نتيجة الفجوة بين التكنولوجيا التي تتقدم في تطورها، والإنسانية كظاهرة راسخة تاريخيًا. هذه هي مشكلة الصراع بين التكنولوجيا والإنسان، وفي عصرنا، تتمثل مهمة المهندس المعماري ومخطط المدن في بناء جسر بينهما… أريد أن أصدق أنه في أعماق عالمنا الحقيقي يوجد شيء قادر على خلق توازن ديناميكي بين التكنولوجيا والوجود البشري، والارتباط بينهما له تأثير حاسم على الأشكال الثقافية الحديثة والبنية الاجتماعية..".
  • <المدينة>:
    ".. المدينة تشبه شجرة في أوج ازدهارها، لها جذع وفروع وأوراق. الجذع هو مرافق المدينة الهندسية، المتمثلة في الموانئ والطرق وجميع عناصر المرافق العامة. وهذة المرافق عادة ما تقوم الدولة بانشائها كقاعدة عامة وأن تكون مصممة للاستخدام طويل الأمد. اما أغصان الشجرة فانها تتوافق مع المباني السكنية، والتي يمكن اعتبارها العنصر الهيكلي الرئيسي. وتعد المباني السكنية جزء لا يتجزأ من البيئة المادية، ولكن بالمقارنة مع مرافق المدينة، فإنها تتغير كماً ونوعاً بشكل أسرع.
    أخيرًا، تماثل أوراق الشجرة أشياء مختلفة من الاستخدام المستمر، والتي تُستخدم لبعض الوقت ثم يتم التخلي عنها. يزداد استهلاك مثل هذه العناصر من عام إلى آخر ومن شهر إلى آخر، مما يستلزم معدلًا متسارعًا باستمرار لاستبدالها – انها بمثابة "الميتابوليزم" Metabolism.
    لا يمكن للمدينة أن تعمل بشكل طبيعي ويشكل عضوي إلا إذا تم التفكير في ان تكون حلول التخطيط الحضري مرتبة بشكل معين - وهذا يعني أنه يتم توفير كل ما هو ضروري أولاً للجذع، ثم للأغصان، ثم للأوراق، وليس العكس. إن عملية "الميتابوليزم" الخاصة بنمو المدن لا يمكن لها ان تتطور دون انقطاع إلا إذا تم الالتزام بهذا النظام.
    إن مأساة التخطيط العمراني الآن (ليس فقط في اليابان لوحدها وانما في جميع البلدان)، تكمن على وجه التحديد بأن عملية النمو الحضري لم تأخذ في الحسبان بشكل كافِ في وقتها.
    إن مدننا لها فروع في الواقع، لكنها لا تمتلك جذعًا. ونتيجة لذلك، فإن الحجم الهائل من الطاقة اوالذي يتم إنفاقه على البناء أدت إلى الفوضى والارتباك. ومهمتنا هي تحويل طاقة الفوضى إلى طاقة الخلق والتوازن.
    يتغير أسلوب حياتنا والظروف التي تحدد ذلك الاسلوب بمعدلات غير مسبوقة، في حين تظل المدن باقية كما كانت. أن المستوى الحالي للحضارة يشير الى اعتبار المدن الكبيرة (وليس فقط التكوينات الإقليمية في بلدان مختلفة من العالم)، بمثابة كائنات حية متنامية ومتغيرة. ففي المستقبل، على ما يبدو، عندما يتم تحديد طبيعة الاستيطان البشري، سيتعين علينا أن ننطلق ليس من قوانين السكون والثبوت، بل من قوانين التطور الديناميكي".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

"كِينْزُو تَانْغَا"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5842-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

د. خالد السلطانيمعمار وأكاديميعندما يذكر اسم "كينزو تانغا" (1913 - 2005) Kenzō Tange، تحضر "العمارة اليابانية" مباشرة في الفكر وفي الذاكرة، فهذا المعمار المجدـ استطاع عبر عمل استمر عقوداً من السنين المثمرة ان يمنح العمارة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram