د. طلال ناظم الزهيري
أصبح استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي أمرًا شائعًا ومؤثرًا، حيث تمتد تأثيراته إلى ميادين مختلفة ابرزها البحث العلمي والتعليم والإعلام. هذا التوسع الملحوظ ليس مجرد انعكاس للتطور التكنولوجي، بل هو شهادة على قدرة الذكاء الاصطناعي في معالجة كميات ضخمة من البيانات وتحليلها، مما يعزز الكفاءة ويوفر حلولًا جديدة تؤثر في إنتاج المعرفة. ومع هذا التحول العميق، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقليدية، بل أصبح عنصرًا محوريًا في إعادة صياغة طريقة إنتاج وتطوير المعرفة البشرية. في هذا المقال، نناقش نموذج "المعرفة التكوينية"،
الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في عمليات بناء المعرفة، وهو تحول يعكس بداية حقبة جديدة من التعاون بين الإنسان والتكنولوجيا، تنبئ بتطورات مثيرة في مسار تقدم الفكر البشري اذ يعد نموذج "المعرفة التكوينية" (Genognosis) هو الطريقة التي تتم من خلالها عمليات إنتاج وتطور المعرفة باستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي، الذي لا شك سوف يختلف جوهريًا عن نمط إنتاج المعرفة التقليدية سواء من حيث المنهجية أو آلية الإنتاج، وكذلك في التفاعل مع القيم الإنسانية. يعكس هذا المفهوم تحولًا جذريًا في الطريقة التي ننتج بها المعرفة، حيث تركز على العمليات التفاعلية والديناميكية في بيئات تعتمد على النظم الذكية، والخوارزميات القادرة على التعلم الذاتي، والشبكات التعاونية. على خلاف المعرفة التقليدية التي تُبنى على أساس تراكم المعلومات من مصادر ثابتة مثل الكتب والتجارب والأبحاث السابقة، فإن المعرفة التكوينية، وفقًا لرؤيتنا، هي نتاج تفاعل مستمر مع البيانات وسياقاتها المتجددة، مما يجعلها أكثر مرونة وسرعة في التكيف مع المتغيرات. إن الدمج بين الخبرات البشرية والإمكانات التقنية التي توفرها تطبيقات الذكاء الاصطناعي يُعد الأساس لمرحلة جديدة في تطور المعرفة، تسهم في تعظيم قيمتها وتغيير خصائصها والانتقال بها من نموذج ثابت إلى نظام متحرك يتم تجديده باستمرار.
من منظورنا الشخصي، تُعتبر المعرفة التكوينية بمثابة رؤية جديدة تعكس كيفية إنتاج المعرفة في بيئات تتفاعل فيها القوى البشرية والتكنولوجية بشكل مستمر. في هذا النظام، لا تُنتج المعرفة في بيئات معزولة أو عبر عمليات أحادية، بل يتم تطويرها من خلال تفاعل ديناميكي بين البشر والذكاء الاصطناعي، بحيث يساهم كل طرف في إثراء الأفكار وابتكار حلول فعالة للمشاكل. ونعتقد أن نموذج المعرفة التكوينية سوف يقوم على مجموعة من الأسس المعرفية التي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1. المعرفة تنمو وتتطور مع مرور الوقت بفضل الذكاء الاصطناعي الذي يعالج البيانات ويولد الحلول بناءً على السياقات المتغيرة.
2. الذكاء الاصطناعي والإنسان يعملان معًا في إنتاج المعرفة، حيث يعزز الذكاء الاصطناعي التفكير البشري ويقدم حلول مبتكرة.
3. النموذج يشجع الابتكار المستمر من خلال التفاعل بين البشر والذكاء الاصطناعي لإيجاد أفكار وتجارب جديدة.
4. المعرفة يجب أن تكون مرنة وقادرة على التكيف مع التغيرات البيئية والاجتماعية، مع وضع إطار أخلاقي وتنظيمي لاستخدام التكنولوجيا بشكل مسؤول.
وفقا لهذه الاسس، يتبين أن مستقبل المعرفة لن يعتمد على الإنسان أو الذكاء الاصطناعي بشكل منفصل، بل سيعتمد على نظام هجين يجمع بين قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل البيانات بسرعة ودقة، وقدرة الإنسان على التفسير النقدي وإعطاء هذه المعرفة السياق المناسب. بهذا الشكل، يتحول الذكاء الاصطناعي من تهديد محتمل إلى شريك استراتيجي في تطوير وتعزيز المعرفة البشرية. لذلك، يمثل نموذج المعرفة التكوينية تصورًا عمليًا يمكن تطبيقه في العديد من المجالات الحيوية في المجتمع، وليس مجرد رؤية فلسفية للمعرفة المستقبلية. اما ابرز التحديات التي تواجهننا في تطبيق هذا النموذج فهي الخوف من ان تؤدي الإمكانيات الهائلة التي يتيحها الذكاء الاصطناعي التوليدي في معالجة كميات ضخمة من البيانات وتحليلها، إلى توحيد قسري للمعرفة، بحيث تصبح المخرجات المعرفية متشابهة على المستوى العالمي وذلك نتيجة للاعتماد على نفس المصادر والأنماط. وهذا الأمر قد يثير تساؤلات هامة حول مستقبل التنوع الثقافي للامم والشعوب، حيث قد يتم تهميش أو حتى إلغاء الهوية الثقافية لبعض المجتمعات لصالح أنماط وهويات معرفية أكثر انتشارًا. او توسع القاعدة المعرفية لبعض اللغات على حساب لغات اخرى. على سبيل المثال نجد ان معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدية نتائجها باللغة الانكليزية افضل واكثر شمولا مقارنة باللغات الاخرى ومن بينها اللغة العربية. بالتالي ومن اجل الحفاظ على الهوية الثقافية للدول العربية في ظل نموذج المعرفة التكوينية نقترح الآتي:
1. تطوير محتوى معرفي رقمي يعكس الثقافة العربية وتاريخها باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، يشمل كتب وأبحاث وفيديوهات وغيرها، للمساهمة في نشر الثقافة العربية عالميًا.
2. دعم تطوير نظم الذكاء الاصطناعي التي تدعم اللغة العربية لتحسين فهمها واستخدامها في البيئة الرقمية، مع الحفاظ على اللغة العربية في المؤسسات العربية.
3. تشجيع الأبحاث التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لاستكشاف وتحليل الثقافة العربية وتوثيق تاريخها بشكل عميق.
4. وضع معايير لضمان أن الخوارزميات لا تؤدي إلى تهميش الهوية الثقافية المحلية لصالح ثقافات أخرى.
5. إشراك المجتمعات المحلية في إنتاج المعرفة باستخدام الذكاء الاصطناعي، من خلال ورش عمل ومؤتمرات تعزز الحفاظ على التراث الثقافي.
6. التعاون بين الدول العربية لبناء منصات ومراكز بحثية تركز على إنتاج المعرفة المتوافقة مع الثقافة العربية، مع التوازن بين التراث والتطورات المعرفية الحديثة.
من خلال تنفيذ هذه الإجراءات، يمكن للعالم العربي الحفاظ على هويته الثقافية واللغوية الفريدة مع الاستفادة من التطورات المعرفية التي يقودها الذكاء الاصطناعي. التحدي الأساسي يكمن في ضمان أن يكون الذكاء الاصطناعي عاملًا معززًا للتنوع بدلاً من أن يكون قوة تؤدي إلى توحيد المعرفة بشكل قسري. لذلك، يوفر نموذج المعرفة التكوينية فرصة لاستثمار إمكانات الذكاء الاصطناعي مع الحفاظ على ثراء التراث الثقافي الإنساني.