طالب عبد العزيز
النسوة اللواتي لم يكنَّ قِبّطياتٍ ما يكفي، يجلسنَ في Cap D’or الحانة القديمة، التي تشحُّ أضواؤها كلّما انتصف الليل. ظلت المقاعدُ عالية، بطُرزها الإفرنجيّة. الوزير، الثريُّ (طلعت حرب) أتى بها فكانت غالبةً وتسودُ. الأبواب شبه المغلقة، تؤتى من ظلفةٍ واحدة. يأتي النادل لا يشبه قميصه ما يزبدُ من كاس البيرة، هو في النيون أسمرُ، لكنه يستعجلُ الجلساءَ، يمسيهم بالخير، فلا تصل الكلماتُ مسمعه إلّا متأخرةً . أنت تضمر تعريفاً لليلتك الاخيرة هذه، والنادل يمضي إلى حاجة في يده.، غير مبالٍ بما يقال في الاغنية.
لا تشبه الحانةُ في ميدان طلعت حرب حانةً ببغداد، التي تنغلق ساعةً إثر أخرى، لكن القاهرة ايضاً ليست للمعزِّ الفاطمي، فالخشب المهاجوني يجعل السقف عالياً، ومبنى الجاز في الأغنية مرتبكٌ، ضاربٌ في الحمرة، لكنْ، لا عليك، سيمضي الليل وإن كنت وحيداً، وأخلقْ مما يعافُ الرواةُ كأساً تحابي النأيَ والضَّجرَ، مادتك في كلِّ ظلام . المصريون صخّابون، تعلمُ ذلك، وشرّاحٌ مفازات، لكنَّ النسوة في الحانة يُذهبن بالصخب بعيداً، هنَّ يجعلنَّ البيرةً دهاناً على الشفتين.
كنتَ اتيتَ القاهرة من ميدانها الكبير، عند المقهى، حيث تصطفُّ شجيراتِ الظلِّ، حذاؤك يبلى، لانَّ الشوارع تدور، بحسب مشيئة الليل والحاناتِ القديمة. القبطيُّ، صاحب الحانة يُملي على الزجاجاتِ، تصطفُّ أمامه، ما يؤكّدهُ سيَّداً، والصِّبيّةُ، أقصى الحانة يقبّلون بعضَهم، لا اتبينُ الذكور إلّا واقفين، لكنَّ إحداهنَّ تغادر مقعدها، تضحكُ، مخمورةً، كانَ سروالُها اسودَ، ولا تني تنفث الدخان عالياً. البنت التي ليست قبطيةٍ بما يكفي، ترشد الشاعرَ إلى ما يجعل الورقةَ هذه قصيدةً.
الرجلُ، الشاعرُ، الخصيبيُّ جدّاً، الذي ليس برأسه شعرةٌ سوداءُ واحدةٌ في حانة (كاب ديور) التي بميدان طلعت حرب يستعظمُ نفسَه الساعةَ هذه، فهو صامتٌ، يحدِّثُ جمهورَ الجالسين بعينين كليلتين، سيقولون: ما لهذا الرجلُ الأشيبُ يُجالسُ حانتنا؟ ما له كلّما صار إلى دورة المياه يُطيل؟ ماله يكتبُ في قرطاسه ما لا نعرفه ... لم يشنّعْ صاحبُ الحانةِ عليه وقوفَه الطويل، أمام مختبره بزجاجاته مديدة الأعناق، إنّما ظلَّ مبتسماً، حتى توارى الشبحُ برأسه الأبيضِ المنفوش في مرآة حكمته.
لم يعد صوتُ الصِّبيَّة كما كان، كذلك كنًَّ الصبايا اللواتي توزعّنَ مقاعدَ الحانة، أخذت الخمرةُ بتلابيب الجميع، فتهافتوا في المقاعد، على بعضهم، وليس بينهم من يسمع ما تتلوه الموسيقى. الولدانُ الذين كانوا مُخلّدين من ساعةٍ ناموا. هنَّ يرتدين قفاطينهن، ويغادرن الان، لذا، ستقفر في الحانة أكثرُ من طاولة، وسينتهي صخبٌ ليته ظلَّ حتى الصباح.
لم يصحبّنَ أحدا، فما هنَّ بعاهراتٍ، ولا طالباتٍ بمعهد الموسيقى، كنَّ وحيداتٍ حسب، وبقين هكذا، وزجاجاتُ البيرة خضراء ماتزال، وهذا الليل أخضرُ، ترى لماذا يظلُّ الليلُ اخضرَ بأقاصي الطرق بطلعت حرب، ولمن سيتركُ السُّقاةُ كؤوسهم إذا ارتطمَ قفا الليلِ بوجه الصبح؟
أنا آخر من اِبيّضَ شعرُ رأسه في حانةٍ بميدان طلعت حرب، أحتلبُ ما ظلَّ في ضرع الحانة من الكؤوس، لأمضي إلى غرفة صغيرة، في فندقٍ بعضه قرب مقهى ريش، وكثيرٌ منه يقابل برج الإيفرجن كرين، حيث تكررُ بائعةُ الإيشارباتِ عليَّ جملتها كلَّ نهاية لليل : نراك بخير.
من فرضةٍ في سماء الحلمِ كانت الصَّبيّةُ الجميلةُ، بقلم حمرتها قد أخذت مجلسها، والرجل، الخدن الذي يحتمي من البرد بكوفية فلسطينية، حمل النادل كاسيَ النبيذ لهما، ها قد أبدلَ صاحبُ الحانة الأغنية ثانيةً. نحن في مطلع فبراير والطريق الى الحانة يغلقها حرسٌ غِلاظ فيما السماء مبهجةً ماتزال.