ياسين طه حافظ 1 - 2كان المتأدّب عندنا، إذا أراد الظهور او اعجاب الناس، يفكر ان يصبح شاعراً. فتلك الميزة الخطابية من المنابر، تمنحه "رئاسة" مؤقتة او "تفوّقاً" او تجعله "المتكلم" لا المستمع! نفسياً، في هذا تعويض عن "خضوع" او "دنوّ" او "مأمورية". فهو، على منبر، يقلب المعادلة، ولو بالالفاظ، ومن ميكرفون.
وحين صار الاديب يكسب احتراماً وحضوراً ثقافياً، توجهت اعداد من القرّاء إلى الكتابة الأدبية يستثمرون قراءاتهم. وهذه الظاهرة الايجابية، عموماً اتسّمت بتوزّع هؤلاء على الشعر والقصة والمقالة واحيانا، ولمزيد من الاعتبار، يجمع واحدهم الاثنين. او الثلاثة فنون. قليل جداً من يكتبون للمسرح، قليل جدا من يكتبون يوميات او سِيَراً.ولكن حين ضاق "السوق" بـ "كتّاب" الشعر، وكتّاب القصة، حاول آخرون أن يجدوا بغيتهم، أو يجدوا أنفسهم، في إجراء اللقاءات او التحقيقات الصحفية او كتابة خواطر ومشاهدات. الكتابة في الحقول الأخيرة أزاحت البوابة الثقيلة لرؤية آفاق أُخرى للكتابة.ثمة مجالات أُخرى للكتابة ما تزال بعيدة عنا، أو انها لم تُمَسّ كثيراً. نبهني إلى هذه كتاب "يوميات القراءة" لالبرتو مانغويل، الأمريكي كندي الأصل، بترجمة الاستاذ عباس المفرجي. فقد أثار الكاتب ما يمكن ان نسميه بكتابة الهوامش. الهوامش هنا لا تعني الـ Footnotes ، والتي هي التنبيه إلى المرجع او إلى معنى الكلمة او إلى معلومة تخص الجملة، في آخر الصفحة وعادة ما تكون بحرف اصغر حجماً. المقصود بها هنا الهوامش التعقيبية الشبيهة بتلك التي كانت تُكْتَب على جوانب المتن، في التأليف القديمة والملاحظات التي يدونها قارئ الكتاب عما يقرأ واليوميات التي يدونها الطبيب في دقائق فراغه عن المرضى أو الأدوية أو أعراض ما بعد الجراحة أو ما يواجهه في الحياة والمهنة للمراجعة وغالباً للذكرى. لكنها هنا تكتب او تطبع كجزء اساس من النص، وليست ثانوية أو تكميلية كما سبق.أهمية هذه الملاحظات او الهوامش بصيغتها الجديدة، انها مفيدة لتوثيق ما يحيط بالفكرة الأساس او الحدث الرئيس، وكشف بعض من تفاصيل العالم الحي الذي يوجد فيه الحدث او الشخصية او الكتابة نفسها، مثلما ترينا ما يحدث وما يتوارد في زمن الكتابة. هي في الحقيقة مكمّلات قراءة ومكمّلات نص! وفي قراءتنا لبعض الهوامش والملحوظات في أواخر الكتب، قد نجد وثائق وكشوفات عن الحياة المزامنة لتلك الكتابة مما يفيدنا في فهم النص كما يفيدنا في حقول معرفية أُخرى. بل أتجاوز هذا فأقول اني تمتعت ببعض هذه الكتابات الجانبية، المتداخلة هنا مع النص، أو التي صارت بعضا من تكوين النص، أكثر من أساسيات الكتاب وفي أمور كنت غافلا أو منشغلاً عنها.مثل هذا ما نشعر به حين نقرأ صفحة من جريدة صدرت قبل خمسين او ستين سنة. الأخبار الصغيرة والأحداث وأسماء الأفلام والإعلانات والخطابات لها نكهة أُخرى مثلما لها فائدتها العلمية في حقول الفن والتاريخ والصحافة والاجتماع وتاريخ الأدب. "يوميات القراءة" التي التفت إليها بذكاء وترجمها الأستاذ عباس المفرجي، تقدم شاهداً جديداً على أهمية هذا النمط من الكتابة وحجم المتعة في كتابته وفي قراءته. مثلما هو يقدم أنموذجاً في التأليف لأدبائنا، لزحزحة بعضهم عن كتابة القصص والأشعار التي لم يثبت أن كتابتها تمنحهم مجداً أو زهواً. هي في الحقيقة كتابة مبهجة ومهمة للجميع. كما أن هذا النمط من الكتابات الغنية بالمقتبسات والمشاهدات والتجارب الشخصية يقرؤها الموظف ورئيس الدولة. يقرؤها الشاعر والفنان والجنرال والروائي والمسرحي والسينمائي مثلما يقرؤها الصحفي، رجالا ونساء، شبابا ومتقاعدين. هي كتابة تخص الجميع وتمنح كلا حصة. هذا ينال متعة وذاك معلومة وهذا إحساساً بجمال مضى وذلك، مثلي الآن، موضوعاً للكتابة! بالنسبة للكاتب، المؤلف، استطاع بمهارة وحرفية ان يتلافى ما فاته بأن يجد له فسحة في يومياته. كما عجّل في الإجابة عما قد يرد من اعتراضات فتبناها هو وادخلها في الكتابة. وبهذا الفعل استطاع أيضاً ربط القارئ بخلفيات معرفية وحياتيه. في هذا العمل، وظّف الملاحظة، والذكرى، وقراءة الخبر والمشهد التلفزيوني والشواهد المستقاة من قراءاته ليقدم نسيجا خيوطه الرئيسة عشر كتب، هي روايات تسع وكتاب يوميات واحد. والآن اسأل: كم وظفنا مما شهدناه من وقائع وأحداث، ومفارقات، وإيحاءات عن نهب الكويت، ثم نهب العراق؟ وقبلها من أحداث ومشاهد طبيعية وتصرفات الناس منتصرين او مهزومين في الحرب العراقية – الإيرانية؟ سيظل الكثير من هذه ومن تلك وضمنها البيانات ومانشيتات الصحف، مغيّبة فضلا عما كان يجري وراء الكواليس وبين القادة والجنرالات.. نعم، قد تأتي على بعض منها يوميات او مذكرات أحد الساسة او احد الخدم في القصور.. ولكن ما هو اكيد، ان الكثير منها سيضيع. وحتى بالنسبة للأوساط الثقافية فنحن لا نعرف بشكل واف ما كان يتحدث به المثقفون في خلواتهم، وان شهدنا السلوك الريائي والتظاهر بالتأييد والكتابات التي- لسبب او آخر لا يريدها أصحابها ان تكون وثائق فقد كانت الازدواجية في السلوك والحياة صفة تكاد تكون عامة، خوفا أو طمعاً أو ضحالة فكر أو عقائديات تفتقد حداثة الثق
يوميات القراءة.. وفن تطوير الهامش
نشر في: 12 فبراير, 2011: 05:40 م