ثائر صالح
يعد أريش فولفغانغ كورنغولد اليوم أول من ارتقى بالموسيقى في هوليوود لتصل إلى ما هي عليه اليوم من مكانة في عالم السينما بالدرجة الأولى سوية مع ماكس شتاينر وألفريد نيومان. لكن الكثير يهملون جانبه الآخر خارج عالم السينما باعتباره مؤلف موسيقي مهم من مؤلفي القرن العشرين. إذ ألّف إلى جانب موسيقى 22 فيلماً نال على إثنين منها جوائز الأوسكار 42 عملاً موسيقياً مختلفاً، أغلبها موسيقى للحجرة مثل قطع البيانو المنفرد والسوناتات والرباعيات والخماسيات والسداسيات والأغاني إلى جانب عدد من الأعمال الأوركسترالية الضخمة مثل سيمفونيته في فا دييز (1947-1951) وكونشرتات البيانو (1923) والكمان (1947) والتشيلو (1950)، وكذلك الأوبرا الطويلة "أعجوبة هليانه"، التي أعتبرها عملاً يستحق الاهتمام. يندر تقديم الأوبرا هذه منذ منعها من قبل النازيين رغم تقديمها عدة مرات بعد عرضها الأول في أوبرا هامبورغ سنة 1927. ولم يتم تقديمها منذ ذلك الحين في أوروبا (ألمانيا وبريطانيا) إلا في القرن الحالي، وقدمت للمرة الأولى في الولايات المتحدة في سنة 2019 في مهرجان كلية بارد للفنون (نيويورك)، رغم كل الاهتمام بكورنغولد ودوره الريادي في هوليوود. وقد شدني تسجيل هذا العرض الذي استغرق ساعتين و 40 دقيقة بشدة وتابعته باهتمام كبير. سمعت فيه أصداء الدراما الواقعية في أعمال جاكومو بوتشيني والأجواء الأسطورية الدرامية التي برع فيها ريشارد فاغنر، علاوة على الحبكة الهوليودية التي تحبس الأنفاس. ولا ننسى أن هذا العمل كتب في فترة صعود النازية وكان كأنه نبوءة بما سيحصل في ألمانيا وأوروبا بعد بضعة سنين، إذ تتحدث الأوبرا عن مكان لا يعرف السعادة ولا الحب، يحكمه حاكم مستبد.
كان كورنغولد المولود في برنو في الإمبراطورية النمساوية - المجرية (في تشيخيا اليوم) سنة 1897 طفلا معجزة بحق. فقد برع في العزف على البيانو وهو صغير وألف أول عمل له وهو في السابعة. ألف سوناتا البيانو الأولى وهو في الحادية عشرة وعزفها عازف البيانو الشهير آرتور شنابل وعازف الكمان الأول في فرقة فيينا الفيلهارمونية. وأعماله المبكرة ناضجة أثارت إعجاب موسيقيين كبار مثل مالر الذي دعا إلى الاعتناء بالطفل العبقري، واعتبره ريشارد شتراوس يسبق عمره بأعوام. وقدم قائد الأوركسترا الكبير برونو فالتر عملي أوبرا له في ميونيخ سنة 1917 حققا نجاحاً ملموسا.
دعاه المخرج النمساوي الكبير ماكس راينهارت لتأليف موسيقى فيلم حلم ليلة صيف (1935) وهو واحد من أفلام وارنر الشهيرة الحائزة على الأوسكار. واصل العمل في هوليوود في الثلاثينات والنمسا قبل أن ينتقل نهائيا إلى الولايات المتحدة بعد ضم النمسا إلى ألمانيا النازية في 1938، وقد منع غوبلز تقديم أعمال كورنغولد أسوة بغيره من المؤلفين اليهود. عاد كورنغولد بعد سنوات الحرب الثانية إلى تأليف موسيقى بعيداً عن الأفلام، قبل أن يتوفى في لوس انجليس سنة 1957 وهو في الستين من العمر.