TOP

جريدة المدى > عام > صورة سيفو في مرآة الوهايبي

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

نشر في: 16 فبراير, 2025: 12:03 ص

د. نادية هناوي
(أنا الغني بتجاعيدي ودناني
لدي المزيد من الخمر
ليثمل الكون من رائحتي
ويتيه بحصاني)
بهذه الرؤية ومثيلاتها يرسم شاكر مجيد سيفو صورة ذاته، فهل تشظت هذه الصورة في أوصال شعره؟
(من أي باب.. لا ترى إلا المزارات المدافن.. جئتَها من بابها
الشرقي.. من باب المعظم.. من علي بابا.. من السعدون..
رأس الحواش.. باب الشيخ.. من عقد النصارى.. ساحة
الفردوس.. أو من ساحة التحرير
والكاردينيا؟)
وهل تشظت صورة سيفو المنعكسة في مرآة منصف الوهايبي، تماهيا مع أوصالها ملتمَّة أو متفرقة، قلقة أو مستقرة؟
يضم ديوان (بورتريهات منصف الوهايبي) الصادر عام 2023 بين دفتيه مجموعة بورتريهات شعرية، تتوزع بين ثلاثة أقسام: القسم الأول بورتريهات شخصيات حبيبة، رحلت وتركت غصة ولوعة في نفس الشاعر. والقسم الثاني بورتريهات الأشياء الأليفة بالنسبة إلى الشاعر كالسرير والكرسي والستائر والبستان والحوانيت والكلبة لايكا. أما القسم الثالث فشكَّل جزءا كبيرا من الديوان، وضم بورتريهات شخصيات شعرية وروائية، عربية وأجنبية، معاصرة وتاريخية، ومعها بعض الشخصيات الخيالية.
والبورتريه لفظة فرنسية تعني صورة الشخص، وبالتحديد وجهه، مصورا في وضع الثبات، لكن الشاعر منصف الوهايبي استعاره وسمًا للوحاته الشعرية المرسومة بالكلمات، فقدّم صورا لأناس تشخص ملامحهم لا من ناحية القسمات، وإنما من ناحية التجربة والمعاناة.
وليس يسيرا رسم البورتريه الشعري، لأنه يتطلب استيعابا كاملا وإلماما معمقا بالتجربة الذاتية للشخصية صاحبة البورتريه. وهذا ما سعى إليه الشاعر الوهايبي، فكانت بورتريهاته حصيلة الغوص في تفاصيل التجربة الأدبية والحياتية لكل شخصية من الشخصيات المتناوَلة شعريا. وهو ما تطلب منه أن يتقمص الأدوار ويرسم الصور، متماهيا من خلال ذلك كله مع الشخصية، ناظرا إليها من زاوية مقربة، بغية الوصول إلى التجانس الذي يفضي بالبورتريه إلى المطابقة أو في الأقل المشاكلة والتشابه.
ولقد وظَّف الشاعر الوهايبي أساليب وتقنيات مختلفة، تسمح له بالتشخيص والتجسيم. ومن تلك التقانات التناص مع قصائد بعينها كانت الشخصية قد تميزت بها أو أن تجربتها نضجت بالارتكاز عليها. ومن خلال ذلك يبني الشاعر الوهايبي بورتريهاته العاكسة لجوهر تلك الشخصيات. ومنها(بورتريه العراقي شاكر مجيد سيفو بغداد/ الكوردينيا) وفيه يتقمص شخصية سيفو، ويتعامل مع شعره بالطريقة نفسها التي بها تتعامل هذه الشخصية. وكثيرة هي القصائد التي استحضرها الشاعر الوهايبي، وتفاعل مع ما فيها من ثيمات، تكررت في شعر سيفو، وكانت قريبة منه وأثيرة إلى نفسه. ومن ذلك مثلا أسماء المدن بغديدا وبغداد ونينوى، وهو القائل:(ومن فرط صراخي لها رحت أصيح بغدااااااااد، داد، داد!!!)
ومن قصائده المطولة التي فيها ترد محلات بغداد وشوارعها(كتاب الجنون): (الأمة ترقد على ذراع الباب الشرقي هناك حيث عض الرماد عيون الصعاليك وتخاصم باعة البالات على قميص السعدون وأزهار حسين مردان. ضاعت عكازة الرصافي في الميدان...السلام على الحلاج وهو يفر بشاهدته إلى ساحة التحرير)
ولقد جسَّد البورتريه هذه الألفة من جهة، وشخَّص لوعة الفقد خلال سنوات التهجير والنزوح من جهة أخرى:
أم هل أنه نوم سبات.. قادم من ليل بغديدا ومن
أصيافه في نينوى
أم أنه قمر نحاسي.. سعيدا في استضافته تدلى فوقه
من ليل بغداد الثمانينيات.. حيث لقيته
فأضاءني.. وأضاءه
وكان الشاعر سيفو قد أفرد لأمه (كلخو) مكانة في قصيدته المطولة (على رأسي قنديل.. أمشي) وأهداها إليها. فتقمص البورتريه المشاعر وصورها من وجهة نظر الشاعر سيفو:
اسودُ..راجع في قيئه.. أسماكه.. القطط.. الكلاب.. الريش
أحذية العساكر.. والخراطيش.. الصديد.. النهر غير النهر..
لا قمر له.. من أمه كلخو
ومما عُرف به الشاعر شاكر مجيد سيفو اهتمامه بالأساطير البابلية والإغريقية، وكثيرا ما اتخذ منها رموزا للغياب والنسيان والحياة والموت والميتافيزيقيا.. الخ. وهو ما استلهمه البورتريه فكان لسومر وأور واتونبشتم حصة فيه:
وله وصايا الطير وهي تموت في بستانها.. في اور:
أن حافظْ على لغة تدوم في سماء النهر.. سريانية.. عربية
إن شئت..
واقرأ لوح سومر.. باسمها
لا مركب لاتونبشتم في انتظارك.. كي تنام به.. ولو
سكران
مثل صديقنا سركون لا وقت.. لترشقهم بعظمتك
الأخيرة..
إنما.. يوما.. على يبس تجيء سفينة الطوفان..
يوما.. للعراقي الحزين.. منارة في موجه الطامي.. تضيء
ومما هو معروف مداومة الشاعر سيفو على كتابة قصيدة النثر. وله فيها دواوين سبعة، أودع فيها تجربته الممتدة من أواخر سبعينيات القرن الماضي حتى وفاته عام 2022. وله أيضا كتابات في نقد الشعر، تستكمل ما له من ميول وأهواء في قول الشعر. وأهم ما يميز هذه الميول أن الشاعر يضع أناه في منزلة بين منزلتين: العالم والسماء. وبهذا الشكل يتحدد عنده قدر الإنسان وكنه الحياة، نقرأ في قصيدته (هذا ليس هديلي):
لقد نسيتُ لساني فوق طاولة الكتابة
صرخت: أنا فارزة، والعالم في خطأ
ستحبل الأخطاء كلها بي
وأصل إلى السماء بحذاء أبيض
وقد عكس البورتريه هذه الرمزية بشكل درامي، مستعملا الصور السردية بطريقة مرآوية، وجهت الأفكار والعواطف وجهة رمزية، لا من ناحية التجريد، وإنما من ناحية التسريد:
سوى هذا النحاسي الذي ما زال يصحبه إلى أن يلتقي
والشمس في بغداد.. بعد دوامها
...
في عربات الريح لا طريق لها وأجساد تطل بلا عيون من مشبكها
..
والشعر مثل الزهايمر.. أنت تعرف كيف يبدأ يا ابن سيفو؟
حيث يغدو الحلم واقعة.. وذكرى
ومن الجدير ذكره أنّ أغلب قصائد الشاعر سيفو تحفل بعناصر السرد وتقاناته، نقرأ في قصيدته(التلصص على الحياة):
لو مرة تندلق السماء
من عنق الرب لهرعنا إليها عراة دائخين من العري
وحجزنا مقاعدنا في الفردوس
الآن آخذ الحياة إلى متحف الجنون لميشيل فوكو
ليقص ضفائرها البيض
أو يصبغها بالحناء كي أتزوجها
ومن أساليب البورتريه الفنية توظيف الاستفهام من أجل تشخيص معاناة الشاعر الذي كان في سهده مستمتعا، وفي منامه مؤرقا هاجعا:
هل كان يحرس نوم وردته؟
أم كان في عينين باردتين، ياسر ليله؟
..
هل أنت حقا أنت إذ تبلى السرائر؟
ومعظم التساؤلات تدور حول العراق بمدنه ومزاراته وساحاته وبساتينه ودياراته وأهله وأزهاره وشعرائه(الستينيين) وباستعمال تقانة الحوار الديالوجي، يجيب البورتريه عن بعض هذه التساؤلات مستنطقا شخصية سيفو. وهذا ما يضفي على البورتريه مزيدا من الدرامية حيث السائل هو الشاعر الوهايبي والمجيب هو الشاعر سيفو:
لا تخف هذي شواظ من نحاس كان يرسلها الشعوبي الأخير
وهذه؟
طرق تقود إلى بساتين المحلة
ما تبقى من ديارات العراق؟
وما الذي تبقى؟ الأرض في بغداد تنشف ماءها.. من
أي وجه جئتها؟
من أي باب..
والكاردينيا؟
سقف سماوي لأهليها.. له أزهاره بيضاء.. أوراقه خضراء..
لكن أين ستينيّها؟
من؟ أيهم؟
أنا لا اسمي منهم أحدا... شيوعيين... بعثيين.. قوميين.. أو
حتى بوهيميين..
ويستمر الحوار حول الشعر والنهر والقمر والصباح والريح والأجساد والحلم وبغداد، ثم يتغير الصوت الشعري من الخطاب والتكلم إلى الغياب:
كلهم أحب عراقه... له وحده..
بغداده.. ظلا له..
كل له من حزن سمعان، جنون الديك.. أو قداسه..
إنّ هذا الاستدعاء الدقيق لمفردات راهنت عليها قصائد سيفو، والتناص معها بدرامية سردية وحوارات مباشرة وخارجية، جعل البورتريه صورة مطابقة لشخصية الشاعر سيفو. فظهر مرسوما على حقيقته متمكنا من استنفار المعاني المثيرة وتجسيمها وتشخيصها. وهو القائل عن تجربته الشعرية في مقدمة مجموعته(على رأسي قنديل أمشي) (من المتن الوجداني والذاتي تضمن الكتاب عددا من النصوص، ترشح عنها أنفاس الأنوية الشخصية واقترانها بالدال المكاني الانطولوجي المتجسد في عشق الشاعر لعاصمته الحضارية نينوى ومدينته التي عاش فيها ويتطلع، بل يسعى إلى أن يعيش فيها إلى الأبد) ولقد تجلت رمزية هذه الأبدية في اقتران الحياة بالإبداع.
وما دام نهر اللغة جاريا أبدا حيث لا مصبات يمكن أن ينتهي إليها - وإن كانت موجودة غير أنها مجهولة-، فإن الإبداع مستمر لا يذوي. واستمرار الإبداع يعني لا نهائية الحياة. ولقد اغترف سيفو قصائده من ذاك النهر، فبدت أناه متوهجة بمركزيتها (أنا موبوء بالجن والجان والجنون/ أنا لغتي الزمان ولساني شاقول المكان). ومن هذا النهر عينه، اغترف منصف الوهايبي البورتريه. وما احتفاؤه بتجربة شاكر مجيد سيفو سوى احتفاء بالشعر الذي هو بالنسبة إلى سيفو جنون (والشعراء مجانين لا مأوى لهم) وعنده القصيدة(ضحكة يكتبها وهو يبكي) ولكنه يتلوها بتدفق شعري، يسري بقوة ولا يخفت البتة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العالِم هومي جيْ بابا: لا استسلام مع الشغف

رومان غاري، "الفنان الشامل" و"الكاتب اللغز " في ثلاثية عن سيرته الذاتية

جبران طرزي رائد الأصالة والتجديد

قراءة في المضامين والدلالات والمواقف في الأفلام

من صور التنظير للسّارد

مقالات ذات صلة

"إِمْـــرِي أَرُولَاتْ"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/03/5876-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "إِمْـــرِي أَرُولَاتْ"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي تنشد هذة الزاوية التى ننشر حلقاتها بين فترة وآخرى، وكما لاحظ القارئ، الى "ترويج" حضور "الآخر" في نشاط الممارسة الثقافية المحلية لجهة نواح معرفية (ابستيمولوجية)، والأهم لناحية تعزيز الإمكانات...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram