TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: توابلُ (دان براون) الروائية

قناديل: توابلُ (دان براون) الروائية

نشر في: 16 فبراير, 2025: 12:05 ص

 لطفية الدليمي

رواية سادسةٌ للروائي (دان براون Dan Brown) ستُنشرُ يوم التاسع من شهر سبتمبر (أيلول) القادم بعنوان (سرّ الأسرار The Secrets of Secrets). هذا ما أعلنته الدار الناشرة (راندوم هاوس) في مسعى مبكّر يهدف بكلّ وضوح لزيادة مناسيب الترقّب والحماسة لإقتناء الرواية فور صدورها كما يحصل مع الإصدارات الجديدة من الهواتف الذكية. صرّحت دار النشر أنّها خطّطت لنشر مليون ونصف المليون نسخة باللغة الإنكليزية من الرواية فضلاً عن نشرها بست عشرة لغة أخرى. جهد كبير وترويج على أعلى النطاقات الممكنة، وهو ما لم تكن الدار الناشرة لتفعله لو لم تتوثق من ضمان أرباحها بناءً على خبرة مسبقة مع الروايات الخمس السابقة للكاتب.
تنتمي روايات براون إلى الجنس الروائي المسمّى أدب الإثارة حيث المطاردات البوليسية والغموض والعوالم السرية والمخطوطات والوثائق المخبوءة في أماكن بالغة التحصين. يبدو براون في رواياته تلميذاً مخلصاً لأغاثا كريستي؛ لكنّه -كما أرى- تفوّق عليها وعلى نظرائه من كُتّاب الرواية البوليسية باعتماده وصفة خوارزمية لما يراه رواية بوليسية ناجحة، والنجاح هنا معيارُهُ الأوحد تحقيق مبيعات مليونية. توابلُ براون الروائية تعتمدُ معايير بسيطة لكنّها فعّالة في الإستحواذ على عقول القرّاء (الشباب بخاصة):
الأوّل: بطل الرواية (روبرت لانغدون) هو أستاذ علم التشفير Cryptography في جامعة هارفرد. يستخدم براون عبارة أيسر في حمولتها التقنية من علم التشفير فيصفها (علم الرموز السرية). واضحٌ أنّ العبارة الأخيرة تختزنُ شحنة متفجّرة من الغموض وتهيئة القارئ ذهنياً ونفسياً للمغامرات القادمة. جامعة هارفرد أيضاً مقصودة ولم يخترها براون عبثاً؛ فهي واحدة من أقدم جامعات العالم التي تأسست في القرن السابع عشر، ولها القدرة على التناغم مع أبنية الأديرة القديمة في العصور الوسطى إلى جانب كونها أحد المراكز المعاصرة في صناعة العلم المتقدّم. عصافير كثيرة بحجر واحد من يد براون الخبيرة.
ثانياً: اعتمادُ البطل التسلسلي الذي يتكرّرُ إسمه في كلّ رواية، وهو (روبرت لانغدون) بالطبع. هذا ما فعلته أغاثا كريستي في رواياتها، وكذلك فعله المخرج العالمي (ستيفن سبيلبرغ) في سلسلة أفلامه عن (إنديانا جونز) الذي كان أيضاً أستاذاً للتاريخ القديم في جامعة هارفرد!!. التكرار يخلق نوعاً من التواتر اللذيذ فضلاً عن كونه تمهيداً تلقائياً مقبولاً للخطوة اللاحقة؛ فما أن ينجح فلم سينمائي أو عملٌ روائي حتى يكون هذا النجاح دافعاً لإنجاز عمل تالٍ باستخدام نفس أدوات النجاح السابقة. ثمّة أمرٌ آخر: لن تحتاج في العمل اللاحق لبذل جهد جديد في رسم معالم البطل؛ فقد سبق لك رسمه وتوصيفه إلى حدود ترسّخت في ذهن القارئ. إنّه نوعٌ من المقاربة الإقتصاديّة في الوقت والجهد من جانب المؤلف لا يدركها القارئ لأنّه غير معنيّ بها.
ثالثاً: أظنّ هذا العنصر هو الأهم بين توابل براون الروائية لأنّه عنصرٌ لم يسبقه إليه أحد من كُتّاب الرواية البوليسية. لا يعتمدُ براون على عناصر الغموض والإثارة والترقّب والمطاردة اعتماداً كلياً؛ بل يوظّفُ في هذا السياق سردية علميّة مشخّصة لها خلفياتها وأدبياتها العلمية ومفاعيلها التقنية، وهي في الغالب معضلة معاصرة تشكّلُ ميدان مجادلات علمية حامية منذ أزمان بعيدة. كلّ رواية من روايات براون الست تتأسّسُ على معضلة علمية لها خلفيتها التاريخية المشتبكة، وهو ما أراه واحدة من فضائل براون عندما يدفعُ القارئ إلى الإستزادة من القراءة في تاريخ المبحث العلمي الخاص بالسردية العلمية أو التقنية المبحوثة في الرواية. يسعى براون مثلاً في روايته الأخيرة للكشف عن سرّ أسرار الوعي البشري، وتلك أمّ المعضلات العلمية بالتأكيد. سنتوقّعُ أن يتناول براون في بعض تفاصيله الروائية موضوعات الذكاء الإصطناعي وقدرة المعالجة المعلوماتية للدماغ البشري، ومن هذين الموضوعين يمكن لروائي متمرّس أن يبتدع عوالم ووقائع روائية لانهائية.
أعترفُ بأنّني لا أحبُّ روايات دان براون، ولم أكمل من رواياته الخمس سوى رواية واحدة هي (شفرة دا فنشي). توظيف الفن الروائي ليكون وسيلة لتمرير المفاهيم العلمية والتقنية أمرٌ في غاية الروعة والأهمية، وقد فعلت شيئاً منه في روايتيّ الأخيرتين (عُشّاق وفونوغراف وأزمنة) و(مشروع أوما). في أولى الروايتين ثمّة حديث عن مفاعلات الإندماج النووي البارد التي تعمل في درجة حرارة الغرفة (إنّها تخييل بالطبع، ولو تحققت على مقياس تجاري لانقلبت أحوال عالمنا جذرياً في كلّ جوانبه السياسية والاقتصادية والمجتمعية)، وفي الرواية الثانية كلامٌ عن تفاصيل علمية وتقنية منها معالجة الفضلات الصلبة لمجتمع لا يتجاوز عدد أفراده الخمسة آلاف بعيداً عن تدخّل الجهاز الخدماتي البيروقراطي للحكومة.
تكمنُ معضلة براون في مسألتين: أولاهما علمية تختصُّ بدقّة المفاهيم التي يتناولها؛ إذ يرى كثير من العلماء أنّه يتسرّعُ في بعض التفاصيل من غير قراءة دقيقة. هم لا يقصدون بالطبع موارد التخييل في الرواية بل تلك الوقائع العلمية التي يوردها والتي لا تحتملُ التلاعب أو التحريف أو الصياغات المفاهيمية الخاطئة. الأمر الثاني هو الشعورُ بالأجواء القسرية المصطنعة التي يختلقها الكاتب والتي يشعر عندها القارئ مثلما يشعرُ راكب سيارة تسيرُ على طريق مستقيم معبّد تعبيداً جيداً، ثم ومن غير نذير مسبّق تواجهه مطبّاتٌ قاسية تجعل رأسه يرتطم بسقف السيارة. هكذا هي روايات دان براون: ستقرأ خمسين أو ستين صفحة من روايته وكأنّك تسيرُ في جدول من ماء رقراق، ثمّ يأتيك المطب الإصطناعي الذي يريده الكاتب فارقاً نوعياً يشرع منه في ولوج العوالم البوليسية والإثارات الحاصلة في دهاليز مغلقة.
تنتمي أعمال براون إلى ذات صنف أعمال رولينغ صاحبة سلسلة هاري بوتر، وأعني بها أعمالاً روائية تسعى للإمساك بخيال القارئ وسحبه نحو عوالم مصطنعة في لجّة من الإستغراق اللذيذ الذي يُنسيه مكابداته في عالم شديد القسوة والفظاظة. كل أدب جيّد لا بدّ أن يسعى إلى هذا المسعى؛ لكنّما الوسائل والمقاربات تختلف. الروايات الروسية الحديثة أغلبها تنجح في تحقيق هذا المسعى معي رغم أنّها لا تبيعُ مثلما تبيع روايات براون.
لن ينجح براون في كشف سرّ أسرار الوعي البشري، ولا أحسبه راغباً في مسعى ملحمي مثل هذا أو قادراً عليه. كلّ ما سيفعله أنّه سينشرُ رواية جديدة ستحقق مبيعات مليونية ستجلب له مزيداً من المال مثلما ستقدّمُ متعة جديدة لمن وجد متعة في أعمال براون السابقة، وتلك فضيلة من جانب الكاتب والقارئ معاً.
ما أسعد الكاتب الذي يسعى لإمتاع قرّائه. تلك أهمّ فضائل الكتابة حتى لو اختلفنا في تحديد نوع المتعة وطبيعتها؛ أمّا إذا تمازجت المتعة مع الفائدة المؤكّدة فتلك فضيلة مضاعفة للكاتب عليه أن يسعى إليها بكلّ ما يستطيع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. Munther Hamid

    منذ 3 أيام

    ((أعترفُ بأنّني لا أحبُّ روايات دان براون، ولم أكمل من رواياته الخمس سوى رواية واحدة هي (شفرة دا فنشي).)) ... بعد هذا الاعتراف سيدتي هل انتي مؤهله لنقد او التحدث عن اعمال دان بروان؟

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الحب في زمن شرطة الأسماك

"الأحوال الشَّخصية".. أتعديل أم تبطِيل؟!

العمود الثامن: حيرتنا بين لا ونعم!!

العمود الثامن: دمشق صادق جلال العظم

قناطر: سؤالُ الشعر.. سؤالُ الحياة

العمود الثامن: حسقيل يرثي حالنا

 علي حسين عندما تشاهد على شاشات التلفزيون، ما يقوله بعض خبراء الاقتصاد عن المبالغ "المليارية" التي تصرف على راحة السياسيين والنواب ومقاولاتهم ، ماذا يخطر ببالك؟ لا ادري، أما انا فيخطر لي ان...
علي حسين

قناطر: جزر البصرة.. السياحة المفقودة

طالب عبد العزيز وأنت تجتاز النصف الأخير من الجسر الإيطالي قاصداً مدينة التنومة(شط العرب) يستحسن أنْ ترمي ببصرك ناحية اليمين، لترى جزيرة الصالحية، هذه القطعة الساحرة، بموقعها الاستثنائي بين شط العرب ونهر الصالحية، هذه...
طالب عبد العزيز

المسكوت عنه في اقتصاديات المحاصصة

ثامر الهيمص (اللا مركزية بما يرتبط بها من تعدد مرجعيات التي تعود الى سلطات محلية تساعد على تقوية سلطة الاعيان المحليين , وتعزز روح الطائقية . ومن المعروف انه في فرنسا كذلك , اتجهت...
ثامر الهيمص

جامعات ودول: لماذا غابت جامعاتنا عن التأثير في الشأن العام ؟

د. عدي حسن مزعل في الدول المتقدمة، وفي الدول الساعية إلى النهوض والتقدم، تحظى الجامعات باهتمام كبير. ولا غرابة في ذلك، فرصانة المؤسسات التعليمية في بلد ما، وعلو منزلتها لدى صانع القرار، مؤشر على...
د. عدي حسن مزعل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram