TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > التلذذ بالعبودية

التلذذ بالعبودية

نشر في: 17 فبراير, 2025: 12:01 ص

إسماعيل نوري الربيعي

كتاب إتيان دو لا بويتيه "خطاب حول العبودية الطوعية" يقدم استكشافاً عميقاً لمفهوم لا يزال ذا صلة اليوم ـ ألا وهو لماذا يضع الأفراد أنفسهم طوعاً تحت طغيان الاستبداد. وتتلخص حجة دو لا بويتيه في أن الاستبداد لا يزال قائماً، ليس فقط بالقوة، بل وأيضاً بموافقة المحكومين. وهو يشرح كيف يمكن للعادات والتقاليد في المجتمع، أن تجعل الفرد يقبل خضوعه. وفي قوله "قرر ألا تخدم بعد الآن، وسوف تتحرر على الفور"، فإنه يعبر بمهارة عن فكرة مفادها أن العقل هو أصل الحرية، وليس التغيير العنيف في التمرد. وتصنف مناقشات دو لا بويتيه "المواطن المستقر" باعتباره شخصاً استوعب أنماطاً من الفكر والسلوك تجعل الاستقرار أكثر أهمية من الحرية. ولكن الاستقرار هنا يأتي غالباً بثمن: ثمن يتضمن التضحية بالاستقلال الشخصي والنزاهة الأخلاقية على مذبح الأمان أو الراحة المتصورين.
في سياقات القمع الطويل الأمد، يتكيف هذا "المواطن المستقر" من خلال التركيز على ثلاثة مجالات رئيسة: سبل العيش، وكرة القدم، والدين. يتم استخدام كل من هذه العناصر لصياغة الهوية والمجتمع والمرونة بين المواطنين في أوقات الشدائد. على سبيل المثال، كرة القدم هي أكثر من مجرد رياضة؛ لقد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة المجتمع، وعنصرًا دافعًا للتماسك المجتمعي، وكذلك وسيلة يمكن للناس من خلالها المشاركة على المستوى الاجتماعي. كرة القدم ترفيهية وتخلق شعورًا بالانتماء في المناطق حيث الفرص الاقتصادية قليلة. الدين هو مصدر للتغذية الروحية والتوجيه الأخلاقي؛ غالبًا ما يكون ملاذًا حيث يجد المرء متنفسًا للتعبير عن إيمانه ودعمه، ضد العديد من المطالب الاجتماعية المفروضة على الفرد. تعزز التعاليم الدينية المرونة والأمل، وتقدم إطارًا يمكن من خلاله وضع المعاناة والظلم في سياقها. تساهم سبل العيش وكرة القدم والدين في الاستقرار والمرونة، وربط المواطنين معًا في قوى القمع. كل منها يوفر أساسًا للهوية والمجتمع وتمكين الذات الذي يمكن استخدامه للتخفيف من تأثير القمع وتعزيز الوكالة في السياقات شديدة القيود.
ولعل كتاب "خطاب حول العبودية الطوعية" لإتيان دو لا بويتيه من أكثر الكتب تناقضاً ـ فهو يتحدث عن الأسباب التي تدفع الناس إلى تسليم أنفسهم لطاغية ظالم ـ إن حجة لا بويتيه برمتها تقوم على افتراض مفاده أن الطغيان لا يعمل بالقوة فحسب، بل وأيضاً من خلال الموافقة الطوعية من قِبَل المحكومين. ومن هذا المنطلق فإن السلطة المطلقة في هذا الصدد تكمن في أيدي الناس على حكامهم، كما تعكس هذه الحجة المفاهيم الحديثة للعصيان المدني والمقاومة اللاعنفية. ويؤكد لا بويتيه على حقيقة مفادها أن معرفة المرء بقوته تشكل مفتاحاً للتحرر. فإذا ما نجح الجميع في الحصول على موافقتهم في انسجام تام، فسوف يتسنى لهم تحطيم الطغيان دون حمام دم والدعوة إلى العصيان المدني، كوسيلة لاستعادة الحرية. يتبنى الكتاب الاعتقاد بأن الحرية هي الحالة الطبيعية للإنسان، وأن كل البشر يجب أن يكونوا على دراية بحقوقهم وأن يعملوا على تحقيق الحكم الذاتي. وفي تعريفه لكيفية ممارسة الطغيان، يقدم لا بويتي آلية لانتقاد أي طغيان ويعمل بمثابة تمهيد لكيفية التعرف على الاستبداد ومقاومته. عادة ما يتم جعل الناس يعتادون على عبوديتهم بمرور الوقت، مما يتحول إلى عدم اهتمام بالمشاركة السياسية، وعدم الرغبة في قلب الأمور لصالحهم وبالتالي استمرار دورات الظلم. يمكن للأفراد أن يشعروا بالحاجة إلى وجود الطغاة من أجل الأمن أو الاستقرار في أذهان الناس، وبالتالي يصبحون عائقًا نفسيًا أمام التمرد. المجتمع منقسم بطريقة لا يستطيع الناس من خلالها التقدم لمعارضة الطغيان لأنهم يعتقدون أن مكاسبهم الخاصة أكثر أهمية بكثير من رفاهتهم الجماعية. يعترض المنتقدون على أن لا بويتي، بالرجوع إلى فكرة العبودية الطوعية، يمكنه تبسيط الأنماط المعقدة للتفاعل الاجتماعي. إن مثل هذا الافتراض القائل بأن الموافقة الممنوعة تتجاهل التفاوت البنيوي والعقبات النظامية التي تحول دون العمل الجماعي. ورغم أن رواية لا بويتي تتسم بالجاذبية الفلسفية، فإنها لا تترك مجالاً كبيراً لوجهة نظر حول الكيفية التي تعمل بها الطغيان في الواقع ضد المجموعات المحرومة بالفعل، والتي لا تملك الوسائل أو القدرة الفعّالة على مقاومة مثل هؤلاء الطغاة.
إن "الخطاب حول العبودية الطوعية" لإتيان دو لا بويتي لا يقدم أي شيء، سوى إطار تحليلي يمكن من خلاله التعامل مع مفهوم القوة والموافقة. وتوفر آراؤه النفسية حول الإنسان والمجتمع أدوات مفيدة، لأولئك الذين يسعون إلى اكتساب نظرة ثاقبة للمشاكل الحالية المتعلقة بالحكم والسلطة. ومع ذلك، فإن المثالية في حججه حول العبودية الطوعية، والمقاومة السلبية تدعو إلى بعض الأسئلة، حول فعالية أي منهما تجاه المقاومة النظامية حيث قد يأتي القمع من النظام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram