TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: الجمال الذي تجاوزَ اختبار الزمن

باليت المدى: الجمال الذي تجاوزَ اختبار الزمن

نشر في: 17 فبراير, 2025: 12:04 ص

 ستار كاووش

أهم ما في الفن العظيم هو مقدار الأسئلة التي يطرحها، كذلك الطاقة التي يحملها والسحر الغامض الذي يتركه في نفس المشاهد ويجعله يعيش لحظات خاصة. أنه ببساطة، يفاجئك بشيء جديد لم تتعود على رؤيته. وهذا ينطبق على التماثيل العملاقة لجزيرة أستر، التي تنتصب مثل غابة من النباتات السحرية المهولة أو مثل كائنات عملاقة جاءت من زمن موغل في القدم. السحر هو الكلمة المناسبة هنا والغرابة هي التي تقول كلمتها أزاء هذه الأعمال الفريدة التي منحت الجزيرة طابعاً إستثنائياً وحولتها الى متحف مفتوح تحت الشمس، تتقاذفه أمواج المحيط الهادي.
لا تعرف ماذا يداهمك من شعور وأنت تنظر الى هذه التماثيل، فهناك ثمة رهبة ممزوجة بالفضول والترقب والكثير من الأسئلة. هل هي أعمالاً فنية أم أشكالاً سحرية؟ هل هى تعاويذ عملاقة أم تماثيل لملوكٍ غابرين عاشوا هنا؟ ما الذي يقف وراءها؟ وهل صُنعتْ لتواجه تقلبات الطبيعة وغضب البحر أم كان الغرض من وجودها هو تزيين الجزيرة؟ وفوق كل هذا، كيف تم صنعها في تلك الفترات البعيدة؟ كيف رفعوا الأحجار العملاقة وشذبوها بهذه الطريقة التي تحمل الكثير من الابداع والتعبير والقوة، والحمكة أيضاً! وهذه الأعداد الغفيرة التي وصل عددها الى ستمائة منحوتة عملاقة كيف وجدوا الوقت الكافي لإنجازها وتفريقها في الجزيرة بطريقة تعجزية مذهلة، وكأنها معرضاً عظيماً للنحت؟ هكذا تبقى دروس الجمال وفتنة الفن ومهابة التاريخ حاضرة أمامنا ونحن نتطلع الى تماثيل جزيرة أستر العظيمة.
فمن أين جاءت هذه المنحوتات؟ وكم مضى على وقوفها هنا وكأنها تتحدى تأثيرات الطبيعة وتَوارد الناس وتقادم السنين؟ وفوق كل هذا، ما الغرض الحقيقي منها؟
كانت جزيرة أستر قبل آلاف السنوات مليئة بالبراكين التي مازالت آثار فوهاتها المطمورة تتوزع في كل مكان. وبسبب تلك البراكين امتلأت الجزيرة بأحجار التوف والسج الداكنة التي تكونت جراء الحمم وتجمعت بهيئة طبقات شغلتْ مساحات كبيرة من هذه الجزيرة التي يعني إسمها (أستر) عيد الفصح، والذي أطلقه عليها البحار الهولندي ياكوب رويفين الذي كان أول شخص أوروبي يصلها عام ١٧٢٢ وقد صادف يومها عيد الفصح، لذا سماها بهذا الأسم. وقد فوجئ وقتها بناس ذوي أشكال غريبة يعيشون في الجزيرة يُصَلّونَ للشمس ويعبدون نوعاً من التماثيل الضخمة. بعد ذلك تناوب الأوروبيون في رحلاتهم الى هذه الجزيرة التي تباينَ عدد سكانها بين الزيادة والإنخفاض على مرِّ القرون وذلك بسبب ظروف الجزيرة والحروب الداخلية التي كانت تحدث بين الأهالي. وفي النهاية أصبحت تابعة لتشيلي. وقد انسجم ما تبقى من السكان مع الثقافة التشيلية، لكنهم مازالوا يستعيدون شيئاً من تراثهم عن طريق بعض الأعياد والإحتفالات والوشم والمسابقات وصناعة القوارب التي تعيدهم لثقافة أجدادهم.
أُنجزَتْ تماثيل الجزيرة في مراحل مختلفة، وكانت بدايتها في القرن الثامن الميلادي بتماثيل صغيرة الحجوم، وبعد مرور السنوات تغيرت إشكالها وحجومها وصارت رؤوسها أكثر إستدارة، واختلفت حتى تكويناتها. ومع مرور الوقت صارت أبعاد التماثيل عملاقة، حيث وصل إرتفاعها الى أكثر من عشرين متراً، ويُعتقد بأنها تشير الى شخصيات مهمة بمثابة الآلهة، لأنها الكثير منها كانتْ تُرَتَّب بهيئة صفوف على الشاطيء حيث تكون ظهورها مواجهة للبحر فيما وجوهها تتجه للداخل، كأنها تُسيج الجزيرة وتحميها من أية مخاطر محتملة. وقد عُثر قرب فوهات البراكين القديمة على الكثير من الأدوات ومعاول قطع الحجر التي كانت تستعمل في إنجاز هذه التماثيل الضخمة، التي كان بعضها يحتوي على تجاويف تحت الجبهة بمثابة عيون يثبتون فيها قطع من المرجان الأبيض الذي يرصعون وسطه بقرص من الحجر الأسود كأحداق للعيون. كذلك كانت تُثَبَّت فوق رؤوس بعضها ما يشبه القبعات التي نُحتت من حجر أحمر كانوا يجلبونه من أماكن خاصة في الجزيرة.
لقد بَدَتْ هذه التماثيل عند إكتشافها بهيئة رؤوس ضخمة تربض بهيبة وقوة على أرض الجزيرة، لكن بعد فترة تم حفر وإزالة التراب المحاذي لها، ليكتشفوا أجسادها العملاقة المطمورة تحت الأرض. وإتضح بأنها قد أُنجزت لتكون واقفة بهذه الإرتفاعات الشاهقة، لكن غطاها التراب بمرور الزمن. والسؤال الذي يتبادر في ذهن الكثيرين، هو كيف تم رفع هذه التماثيل الضخمة وجعلها منتصبة في ذلك الوقت الذي كان يخلو المكائن وآلات الرفع. وللإجابة على ذلك، أقيمت بعض التجارب حول هذا الأمر، كان آخرها في ثمانينيات القرن العشرين حيث إستطاع خمسة عشر رجلاً من رجال الجزيرة سحبَ أحد التماثيل الكبيرة وإمالته بواسطة الحبال فقط بمساعدة جذعين من جذوع أشجار الجزيرة، وقد تم رفع التمثال شيئاً فشيئاً مع وضع بعض الأحجار تحته تباعاً، حتى تمكنوا من جعله منتصباً.
هكذا بقيت هذه التماثيل منتصبة بعد أن تجاوزت إختبار الزمن، تنهض بشكلها الكهنوتي وقوة حضورها ووجوهها الحادة وخطوطها المحفورة بعناية فائقة مع إختزال في ملامحها، وفوق كل هذا، تلك الهيبة العظيمة التي تنعكس منها والسحر الذي تبثه نحو من ينظر اليها. يا لهذه التماثيل المهيبة التي رغم صمتها قالت الكثير عن أسرار الناس والزمن والحضارات المتعاقبة، والأهم من كل ذلك هو الجمال الحي الذي تركه إنسان هذه الجزيرة خلفه، ليعيش مئات السنين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

المنافذ تحقق أكثر من 2.2 تريليون دينار إيرادات جمركية في 2025

التشكيلة الرسمية لمنتخبنا الأولمبي لمواجهة عُمان ببطولة كأس الخليج

الأمم المتحدة: 316 مليون متعاطٍ للمخدرات عالمياً

القضائية تستبعد نجم الجبوري من مقاعد نينوى الانتخابية

ثلاثة منتخبات تحجز مقاعدها مبكراً في ربع نهائي كأس العرب 2025

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

التلوث البيئي في العراق على المحك: "المخاطر والتداعيات"

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

 علي حسين أبحث في الأخبار ومجادلات الساسة عن موضوع لعدد اليوم ، وربما عن فكرة أقنع بها القارئ المحاصر بقطع الطرق والأرزاق، وبالعيش في مدن مثل حقول الألغام، شعارها التمييز، ومنهجها الإقصاء، ودليلها...
علي حسين

قناديل: حين استيقظ العراقي ولم يجد العالم

 لطفية الدليمي لعلّ بعض القرّاء مازالوا يذكرون أحد فصول كتاب اللغة الإنكليزية للصف السادس الإعدادي. تناول الفصل إيجازاً لقصّة كتبها (إج. جي. ويلز) في سبعينات القرن الماضي، عنوانها (النائم يستيقظ The Sleeper Awakes)....
لطفية الدليمي

قناطر: أنقذوا الثقافة من الأدعياء

طالب عبد العزيز منذ قرابة عقد من الزمن وأتحاد الادباء في البصرة يعاني من أزمة في اختيار مجلس إدارته، وهو بعلة لا يبدو التعافي منها قريباً، بسبب الاقتتال على المقاعد الخمسة الأولى التي تمثله....
طالب عبد العزيز

الانتخابات العراقية عام 2025: التحديات الداخلية في ظل ضغوط دولية متزايدة ..

كارول ماسالسكي ترجمة : عدوية الهلالي في يوم الثلاثاء، 11 تشرين الثاني 2025، أجرى العراق سادس انتخابات برلمانية ديمقراطية منذ سقوط صدام حسين عام 2003. وقد حققت القائمة الشيعية «ائتلاف الإعمار والتنمية»، بقيادة رئيس...
كارول ماسالسكي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram