فخري كريم
تشاء الصدف أن تبدأ علاقتنا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، برد فعلٍ لم أُسامح نفسي عليه كلما مرت ذكراه في خاطري. ورغم اعتذاراتي التي لم تتوقف حتى آخر اتصال بيننا، ظل هو يوحي كما لو أنه لا يعرف سبب الاعتذار، مُضمراً هو الآخر أسفًا على تسرّعٍ في التباسٍ عابر.
وهكذا بدأت رحلة تعاون لم تنقطع على مدى أكثر من عقدين من الزمن. كان أسامة لا يفارق مكتبه في غرفته المسوّرة بالصمت والعزلة الإبداعية، حيث العوالم الافتراضية بأبطالها وحكاياتها وأحداثها تُغني عزلته وتبهره بقيمها الجمالية، وترتقي به إلى حيث يتجاوز الواقع التافه والمتداعي واللامجدي.
لم يكن بحاجة إلى السفر أو المغامرة، لأن الكتب التي ترجمها كانت جواز سفره إلى حيوات لم يعشها أبدًا، لكنها عاشت فيه.
كانت الترجمة بالنسبة له أكثر من مجرد عمل، بل كانت وسيلته السرية للتمرد، وطريقه الوحيد لملامسة الحافة الخطرة التي لم يقترب منها في واقعه اليومي.
من “الإغواء الأخير”، أول منجز نشره مع “المدى”، تابعت حيويته ونشاطه وثراء معرفته وتفاصيل ما يعيد خلقه وهو يترجم عيون الأدب العالمي، وفقاً لرؤيا صادمة ومحاكاة لما كان يتوق إليه من حياة يتطلع إليها، قد تكون نقيضاً لواقعه المعاش. وحتى آخر عمل خطته يداه، كانت كل ترجمة يخوضها نوعًا من العيش البديل. لم يكن مجرد ناقل للأدب، بل كان كائنًا يعيش داخل النصوص، يتماهى مع شخصياتها، ويعيد خلقها بلغته، مانحًا إياها بُعده الخاص. كانت كل كلمة يخطها طريقًا إلى الحياة التي لم يعشها، وكل جملةٍ مغامرةً لم يختبرها إلا عبر الصفحات. وبهذا الشغف العشقي، تكاملت أدوات أسامة منزلجي، وقد كان من بين أغلب مترجمي المدى هو من ينتقي الأعمال التي يتولى ترجمتها، واختياراته كلها تعكس سويته وتنبض بحساسيته ورهافة مشاعره الكامنة، بينما تثير الكثير من الأعمال المنتقاة المنشورة تساؤلاً ملفتاً: لماذا كانت أبرز تلك الأعمال نقيض حياته الشخصية؟ فأُسامة العصامي، المفتون بالاكتفاء ربما على كل صعيد، المنعزل عن صخب الحياة وضجيجها، المتصوف “المترهبن” رغم اعتراضه على التوصيف، مستعيضاً عنه بالقول “أسلوب حياة محسوب بدقة” كما يذكر صديقه الكاتب والمترجم زياد عبدالله، يجد شغفه في اختيار أعمال تضج بكل ما هو ضد وصادم، كل ما هو منشغل بالمتع والملذات ومتجاوز لكل تحريم. لماذا اختار أعمال هنري ميللر “ثلاثية الصلب الوردي” و”مدار السرطان” التي حاولت صديقته الوفية “أناييس نن” نشرها في الولايات المتحدة ولم تجد إلى ذلك سبيلاً، فطُبعت في باريس عام ١٩٣٤، ولتتفنن بعدئذٍ في تهريب نسخ منها إلى الولايات المتحدة، بينما لم يجد عزرا باوند وهو يقرّض الرواية سوى القول “هاكم كتاب قذر يستحق القراءة!”، ولم يجاهر ت. اس. إليوت بإعجابه الشديد بها، مكتفياً بتوجيه رسالة إلى ميللر يثني عليها.
لم يكن اختياره لأعمال هنري ميللر و”مدار السرطان” و”ثلاثية الصلب الوردي” اعتباطيًا، بل كان انعكاسًا لرغبة دفينة في استكشاف النقيض المطلق لحياته. كان أسامة العصامي، المنعزل، المتقشف، الذي يقضي أيامه في صمت مدروس، ينتقي أعمالًا تضج بالحياة الصاخبة، المغامرة، الجنس، والتمرد، وكأنه يعيد تشكيل عالم لم يُكتب له أن يكون جزءًا منه. كان يعيش حياة المؤلفين الذين ترجمهم دون أن يغادر غرفته، يرافقهم في تيههم بين القارات، يتنقل معهم بين فنادق رخيصة وكهوف مظلمة، يشرب معهم في حانات باريس، ويشقى معهم في فقرهم المدقع.
لماذا كان هذا الانجذاب إلى حياة لم يعشها؟ هل كان يحاول موازنة عزلته؟ أم كان يرى في الترجمة نوعًا من “الحياة البديلة” التي اختبرها دون أن يدفع ثمنها؟ مهما كان الجواب، فقد كان أسامة مترجمًا لا يُشبه غيره. لم يكن مجرد ناقل للنصوص، بل كان صانعها الجديد، يبث فيها روحه، يذيب شخصيته في شخصياتها، حتى تكاد تلمح صوته بين الأسطر.
لم يكن من أولئك الذين يتباهون بأعمالهم، ولا من أولئك الذين يلهثون خلف الأضواء. كان مترجمًا يعيش في الظل، تمامًا كما كان يعيش في الحياة. اختار أن يترجم أدب المغامرة دون أن يغامر، أدب التهتك دون أن ينغمس فيه، أدب الفوضى وهو في عز انضباطه.
رحل أسامة في غمضة عين، مستريحًا وهو نائم إلى حيث النوم الأبدي. وكأن كل تلك الحيوات التي عاشها بين الكلمات قد استنزفت طاقته على الحياة. لكنه ترك خلفه إرثًا من الترجمة لم يكن مجرد نقل للمعنى، بل كان استنساخًا لروح النص، ومرآةً تعكس روحه هو، تلك الروح التي ظلَّت تبحث عن حيواتٍ لم تكن لها، حتى صارت جزءًا منها.
لقد عوض نمط حياته الهادئ بترجمة المغامرين والمتمردين والمتهتكين وكأن الترجمة كانت طريقه الوحيد لخوض الحياة التي لم يعشها. نوع من الاغتراب العكسي، حيث لم يكن بحاجة إلى السفر الجسدي لأنه سافر عبر النصوص، وعاش حيوات بديلة من خلال الكلمات التي كان ينقلها.