طالب عبد العزيز
أكاد أجزم بأنِّ الموت يدرك الشاعرَ قبل أنْ يكتب قصيدته التي أراد، وستبقى غصةً في قلبه، ذلك لأنَّ الشعرَ غير محدود، فما هو بعدد، ولا حجم، ولا مكان، ولا زمان، ولو كان كذلك لذهب الشعراء اليه، وأخذوا بغيتهم منه وعادوا، مطمئنين، لذا ستظلّ الكثير من القصائد طي روح الشاعر، فالشعرُ قطعة في الميتافيزيق، لا يمكن التحقق من صحة وجوده في الزمن. كل الشعراء الكونيين الذين ماتوا حملوا الى أضرحتهم العشرات من القصائد التي لم يشرعوا في كتابتها. الشاعر يكتب ما كانت تريد قوله الآلهة ونسيته، أو عجزتْ عن كتابته، بحسب تعبير أدونيس، وقبل ذلك كان كازنتزاكي قد خرج الى الشارع في أخريات أيامه يستدين من المارة الساعات والأيام والاسابيع والشهور لأنه كان يعتقد بأنه لم يكتب بعدُ ما أراد، هو الذي تشغل أعماله الرَّفَّ الطويل في مكتابتنا.
مع إعلائنا من شأنه، وشعورنا بأهمية وجوده، لكنْنا نقولُ مع من يقول بأزمة في الشعر العربي! لأنّه قولٌ وواقع، لا في ثقافتنا العربية حسب إنّما في ثقافات الأمم الأخرى، ونجد ذلك واضحاً في عزوف دور النشر عن طباعة كتب الشعر، وتفضيل الناشرين الروايةَ عليها. لن نبحث في الأسباب، على كثرتها، لكننا نعتقد بأنَّ أمر الشعر في العراق مختلفٌ عن سواه في الدول العربية، فقد تكون الحرب الإيرانية العراقية ومدائح رأس النظام سبباً، وربما كانت قصائد العمود التي تمجّدُ الحرب بكل عناوينها، ومن ثم القصائد التي مجّدت حروب الطوائف أيضاً. لا نريد أنْ نعود بذاكرتنا الى شاشة تلفزيون بغداد التي كانت تطالعنا بصورة عبد الرزاق عبد الواحد، وهو يهتفُ ويرتجز لتصبح سبباً واضحاً!! الصورة التي كانت تكفي لقهر آلاف العوائل التي فقدت رجالها في الحرب.
هل نضيف سبباً آخرَ ونقول بأنَّ شعراء العاميّة الذين بالغوا في تمجيد الموت والحرب والرئيس قبل سقوط النظام في ربيع العام 2003 ثم تحولَ بعضهم الى مديح شيوخ القبائل ورجال الدين والقادة الطائفيين وزعماء المليشيات والأحزاب المسلحة وسواهم من الفاسدين، الامر الذي أخرج الشعر من وظيفته الجمالية، وقدرته على صناعة الحياة وإعمار الوجود... الخ والذهاب به الى صناعة شعارات كاذبة ومديح زائف، واحتفال بالموت والقهر. نعم، الشعرُ لا يجيب على الأسئلة الكبرى، والقارئ يبحث عمّن يسمّي الأشياء له، ويحيطه علماً بها، ولهذا تقدمته الرواية لأنها الفن الذي يجيب! أما الشعر فيكتفي بطرح الأسئلة. وهنا سيتاح لنا أن نتحدث عن النثر العربي، هذا الإرث العظيم، الذي سلبه الشعرُ أهميته للأسف، وجعله القرّاء نفلاً في عنايتهم، واقعين تحت تأثير المقولة الشهيرة"الشعر ديوان العرب".
أرى بأنَّ النثر العربي يسير بخط مواز مع الشعر العربي، لكنَّ حظوظ الشعر كانت أكثر، لأسباب كثيرة منها أننا أمةُ قول، ونخضع صوتياً الى ما في الشعر من تنغيم وتوزين وتقفية، القضية التي لا نجدها في النثر. وما قضية الجوائز الممنوحة في السرد والرواية إلا تقريظ لقولنا بأنَّ الشعر لا يجيب على الأسئلة، فيما الرواية تجيب، أمّا إذا أردنا الخوض في مخاضة جوائز الشعر والرواية التي تمنح في بعض الدول والخليجية بخاصة فسيكون الحديث مختلفاً، وهناك ترثيث في تقييم الكتابة، وتسفيه في الصنعة، وما نشاهده على بعض القنوات من إنشاد وقراءات ونقود أمرٌ يدعو للرثاء. الكتابة شعرا ورواية هي خارج القاعات تلك، فقد ظلَّ كافافيس مجهولاً سنوات طويلة، وحين منح سان جون بيرس جائزة نوبل لم يكن معروفاً في باريس.