إسماعيل نوري الربيعي
تقدم نظرية ما بعد الحداثة لجان فرانسوا ليوتار، ونقده للسرديات الكبرى، نموذجًا مقنعًا لدراسة الأجندة السياسية للرئيس دونالد ترامب. في كتابه "الوضع ما بعد الحداثي"، يلفت ليوتار الانتباه إلى تفكيك المعرفة، وتفتيت الحقائق العالمية، وظهور سرديات محلية عابرة. تتطابق سياسة ترامب وبلاغته مع العديد من أبرز موضوعات ليوتار في الفلسفة، بما في ذلك تقويض الخطاب السياسي التقليدي، والاتفاقية المدمرة للمعايير، وبناء هياكل الاعتقاد في اللغة. والأكثر شهرة، بالطبع، هو رفضه للسرديات الكبرى - السرد الشامل أو الإيديولوجية التي تهدف إلى تحديد الحقائق الشاملة، مثل التقدم، أو التحرر، أو العقل العلمي.
خطاب الاضطراب
سلوك ترامب السياسي يمكن أن يُنظَر إليه باعتباره رفضًا للسرديات الرئيسية التي كانت تشكل السياسة الأمريكية حتى الآن، أي أسطورة التقدم الديمقراطي المتواصل، أو التوافق الحزبي، أو المنطق الحتمي للعولمة. إن أسلوب ترامب الخطابي يركز غالبًا على الاضطراب، وعدم الثقة في المؤسسات الحالية (على سبيل المثال، وسائل الإعلام، و"الدولة العميقة"، والمنظمات العالمية)، والتركيز على المصالح المحلية أو الوطنية ("أمريكا أولاً"). وهذا يتماشى مع تشكك ليوتار في النداءات الموجهة إلى العالمية والتزامه بتنوع وجهات النظر. يؤكد ليوتار على قوة اللغة والخطاب في خلق أنظمة المعرفة والمعتقد. إن سلوك ترامب السياسي أدائي للغاية، ويعتمد على الخطاب التحريضي، والشعارات ("اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى")، وتويتر كشكل من أشكال الاتصال المباشر. إن نبرته اللغوية غالباً ما تخترق الخطابات السياسية السائدة بحيث يشعر أنصاره وكأنهم يسمعونها من فم الحصان وتقوض ممارسات الاتصالات السياسية النموذجية. وهذا يتماشى مع حجة ليوتار بأن المعرفة والقوة متشابكتان بعمق في اللغة وأن التحولات في أنماط الخطاب يمكن أن تعدل الواقع السياسي.
تآكل السلطة التقليدية
الحالة ما بعد الحداثية، كما يصفها ليوتار، هي انفجار لوجهات نظر متضاربة وتآكل سلطة المصادر التقليدية للمعرفة. لقد جاءت رئاسة ترامب خلال عصر من المساحات الإعلامية المجزأة، حيث تتنافس منصات وسائل الإعلام الاجتماعية ووسائل الإعلام البديلة مع وسائل الإعلام السائدة. إن إنجازه في هذا الصدد - من خلال مناشدة المجموعات المستهدفة ورفض التقارير السلبية باعتبارها "أخباراً كاذبة" - يوضح فهمه العميق لعالم الإعلام ما بعد الحداثة. يتماشى هذا التفتت مع تأكيد ليوتار على تعدد وجهات النظر وتآكل الإجماع. تفتح فلسفة ليوتار المجال للمجموعات التي تم إسكاتها أو تهميشها في السابق لكي يتم سماعها. في حين كان خطاب ترامب يميل إلى مخاطبة المجموعات المهمشة من خلال العولمة، أو التحول التكنولوجي، أو التحول الثقافي، فإن نهجه لم يكن شاملاً بشكل خاص بالمعنى التقليدي. بدلاً من ذلك، تحدث بصوت عالٍ جدًا نيابة عن أولئك الذين شعروا بالتشريد بسبب ما اعتبروه سرديات نخبوية أو تكنوقراطية رئيسية ووضع نفسه كبطل للأميركي "المنسي". ينعكس هذا في تركيز ليوتار على الطابع المحلي المحدد للسياق للمعرفة وأهمية القصص المحلية.
تأجيج العواطف
تبني ليوتار للتعددية وتركيزه على الأبعاد العاطفية للمعرفة (الرغبة، والعاطفة، والحدس) يتوافق مع أسلوب ترامب السياسي. غالبًا ما كانت نداءات ترامب مبنية على العاطفة - الخوف، والغضب، والحنين - بدلاً من الحجة العقلانية أو تفاصيل السياسة. هذا النداء العاطفي، إلى جانب رفضه للمطالبات العالمية، هو موقف ما بعد الحداثة الذي يقدر التجربة الفردية والجماعية على التجريد. وفقًا لفلسفة ليوتار، يمكن فهم أسلوب ترامب السياسي باعتباره انعكاسًا لحالة ما بعد الحداثة: رفض السرديات الرئيسية، والخطاب التمثيلي، واحتضان التعددية والتفتت. وبينما يُعَد كتاب ليوتار ترنيمة لاستقلالية الأصوات الهامشية وتنوع المنظور، فهو أيضًا دعوة إلى الإعجاب بالتحدي المتمثل في إيجاد الاتفاق والحس السليم في عالم ما بعد الحداثة. تُظهِر لنا رئاسة ترامب، مع تقسيمها وإسقاطها للمعايير التقليدية، إمكانية وتهديد هذا الواقع. أخيرًا، تساعد ملاحظات ليوتار في تسليط الضوء على مدى انعكاس نهج ترامب على التحولات المعرفية والثقافية الأوسع نطاقًا خلال عصر ما بعد الحداثة.
الحقائق البديلة؟!
خطاب ترامب يقلب الأعراف السياسية المقبولة رأساً على عقب في كثير من الأحيان. إن استخدامه للمفردات غير القياسية والتغريدات والخطابات الموجهة إلى ناخبيه يتجاوز القنوات الإعلامية والمؤسسية القديمة. وهذا يتماشى مع تأكيد ليوتار على انهيار الخطابات التقليدية وصعود أشكال الاتصال المحلية المحددة للسياق. إن فلسفة ليوتار تميل إلى تسليط الضوء على تقلب المعايير وقابلية التفاوض على المعنى. لقد تميزت رئاسة ترامب بمحاولة منسقة لتحطيم المعايير السياسية والاجتماعية، من مقترحاته السياسية غير التقليدية إلى موقفه المواجه. ويمكن تفسير هذا الاضطراب على أنه انعكاس لفكرة ليوتار بأن المعايير ليست مستقرة ولكنها بدلاً من ذلك دائمًا ما تكون محل نزاع وإعادة تعريف. تتميز نظرية ليوتار للحالة ما بعد الحداثية بالتشكك في الحقيقة الموضوعية والقلق بشأن كيفية تداخل القوة والمعرفة. إن استخدام ترامب المتكرر للمعلومات المضللة، و"الحقائق البديلة"، ورفض وسائل الإعلام الناقدة باعتبارها "أخباراً كاذبة" يُظهِر ثقافة ما بعد الحقيقة حيث تكون ادعاءات الحقيقة موضع تساؤل ويتم تحقيق الشرعية من خلال الإقناع، وليس الحقائق الموضوعية. كما يحتفل ليوتار بتنوع الأصوات وتبديد السلطة. إن جاذبية ترامب لبعض قطاعات السكان (ناخبي الطبقة العاملة، والمحافظين الثقافيين، وما إلى ذلك) ورفضه للسياسة العالمية يمثلان ارتفاعًا مماثلاً للصوت المحلي المتنوع فوق صوت واحد متجانس. وبينما يمكن إجراء هذه القياسات، يجب أن نذكر أن فلسفة ليوتار لا تؤيد بالضرورة سياسات ترامب. إن نقد ليوتار للسرديات والمعايير الكبرى هو جزء من مشروع فكري أوسع يتحدى علاقات القوة، ويسعى إلى تمكين الأصوات المهمشة. إن نهج ترامب، على الرغم من كونه تخريبيًا، يميل إلى تأكيد علاقات القوة والتفاوت القائمة، والتي قد تكون في توتر مع طموحات ليوتار الأكثر تحررًا. يمكن تفسير سياسات ترامب وخطاباته باعتبارها تعبيرا عن بعض مخاوف ليوتار، وخاصة فيما يتصل بتخريب الخطابات والأعراف التقليدية. ومع ذلك فإن الدوافع والتداعيات المترتبة على مثل هذه الأفعال مختلفة تماما عن تلك التي تكمن وراء أفكار ليوتار الفلسفية.
