لطفية الدليمي
كان المشهد غريباً في البيت الأبيض وبخاصة أنّه تزامن مع الذكرى الثالثة للحرب الروسية - الأوكرانية: جلس (ماكرون) سليلُ العقلانية الديكارتية والتنوير الأوربي (هكذا نفترض. ربما الواقع غيرُ هذا) قبالة (ترامب) الذي لا يتقنُ في حياته سوى أفانين السمسرة العقارية والتغلّب على المنافسين وسحقهم من غير رحمة، هذا على الأقلّ ما تنبؤنا به سيرةُ الرجل التي يصوّرها لنا فلم (المتدرّب The Apprentice). لا أعرف السبب الذي يجعل (ترامب) يبدو متجهّماً مزموم الفم وكأنّه يضمرُ طبقاتٍ من الكراهية داخله لا يستطيع تحويلها إلى أوامر تنفيذية واجبة كما يشاء. لم يكن هكذا في رئاسته الأولى، ولعلّ هذا بعضُ الثمن الذي يتوجّبُ دفعُهُ لقاء مصاحبة السلطة والظفر بكرسيها.
قلتُ أنّ المشهد كان غريباً إلى حدود غير معقولة. السمسار العقاري والمضارب الذي لا يتشمّمُ سوى رائحة المال يقول بكلام صريح آنَ الأوان لوضع حدّ نهائي للحرب الروسية –الأوكرانية التي سحقت ملايين الأجساد وحوّلتها أشلاء من الطرفين المتحاربيْن، وفي ختام كلامه لم ينسَ أمر المال فقال أنّ الأوربيين قدّموا المال للأوكرانيين في هيئة قروض مستوجبة السداد، في حين أنّ الأمريكيين (إدارة بايدن) قدّموها كهبات مجانية، وهو أمرٌ غير مقبول ويجب إستعادة تلك الأموال؛ لكنّ (ترامب) عاد فأكّد أنّ وقف إزهاق أرواح الشباب الذين بعمر الزهور هو الهدف الأهمّ الذي يتقدّمُ على كلّ الأهداف. كان (ماكرون) يجلس صامتا، ممتعضاً ممّا يسمع، وقد حاول مداراة امتعاضه بمزحة بين فينة وأخرى لكنّه لم يستطع إخفاء علامات الخذلان من وجهه. لا يريد (ماكرون) إيقاف هذه الحرب متعلّلاً أنّ من الأفضل للغربيين أن لا يقدّموا (شيكاً على بياض) للديكتاتور الروسي (بوتين). الغريب أنّه ورهطه من القادة الغربيين يعترفون أنّ بوتين ديكتاتور. لنتخيّلْ إذن لو أنّ الديكتاتور الروسي رفض القبول بشروط الغربيين (وهو ما فعله تماماً)، هل تستمرّ المطحنة البشرية لأرواح الروس والأوكرانيين؟ هل بات الأوربيون سليلو التقاليد التنويرية يتلذّذون برائحة الدماء؟
ربما سيرى كثيرون في السياسة الترامبية تجاه الحرب الروسية –الأوكرانية نوعاً من المراوغة أو رغبة في الإستحواذ على المعادن الأوكرانية النادرة. ليكُن. هو لم يُخفِ رغبته هذه؛ لكنّما العتب يجب أن يتوجّه إلى من زجّ بلاده في حرب غير مسوّغة. أعني الممثل الفاشل (زيلينسكي). أظنّ هذه هي المرة الأولى التي يُبدي فيها ترامب نزعة إنسانية صريحة حتى لو كانت له مآرب أخرى مالية وإقتصادية الطابع. كلّما جاء على مسامعي ذكرُ الحرب الروسية – الأوكرانية تذكّرتُ الحرب العراقية – الإيرانية التي سُمّيت بالحرب المنسية. تشاغل العالم عنّا وتركونا نلعق جراحنا وهم مكتفون بتصوير جثث الألوف المؤلّفة من ضحايا الجانبيْن عبر أقمارهم الصناعية. لنتصوّرْ حينها أنّ كائناً فضائياً (وليس ترامب) جاء إلى الأرض وفرض على الطرفين المتنازعيْن قبول وقف الحرب بالقوة القاهرة لقاء تسهيلات إستثمارية؛ أما كنّا سنرضى؟ كنّا سنمتلئ رضى ونرى في هذا الكائن الفضائي رسولاً إلهياً للسلام. الحرب تحرق قلوب المكتوين بنارها، وقلوب الأمّهات والآباء في المقام الأوّل. كلّ شيء يهون في سبيل كسر سلسلة العنف وإطفاء جذوة الحرب. هل أراد (ماكرون) ونظراؤه من القادة الأوربيين جعل المعضلة الأوكرانية حرباً منسية على نمط الحرب العراقية – الإيرانية؟ هل يريدون المزيد من الجثث؟
لا أريدُ أبداً أن أبدو كمن يمتدحُ رئيساً أمريكياً؛ فكيف أفعل والرئيس هو ترامب بكلّ مواصفاته المعروفة؟ يقول صُنّاع الستراتيجيات السياسية أنّ ترامب يتمثّلُ نظرية الرجل المجنون The Mad Man Theory التي إعتمدها رؤساء أمريكيون عديدون آخرهم (نكسون) الذي أراد تمرير رسالة للفيتناميين مفادها أنّه رجل لا يمكن التنبؤ بسلوكه، وقد يُقْدِمُ في لحظة جنون غير متوقّعة على كبس الزر النووي في مكتبه البيضاوي. قد يكون ترامب يعتمدُ هذه السياسة؛ لكنّ الحكم النهائي يكون على النتائج. لو أنّ ترامب (المجنون!!) أوقف الحرب الروسية – الاوكرانية حتى لو كسب من هذا مكاسب هائلة فهذا أفضل من إستمرار هذه الحرب العبثية التي يُرادُ منها أن تصبح حرب إستنزاف منسية لطاقات الطرفين وإمكاناتهم الإقتصادية والعسكرية. يريد الأوربيون التضحية بالأوكرانيين لتحقيق مصالحهم. هل حقاً يحققون مصالحهم؟
أعتقد من غير شكّ أو إلتباس أنّ القسوة أعلى أشكال الجنون، وأنّ الجنون والحرب صنوان لا يفترقان. كل حرب هي جنون معلنٌ بغَضّ النظر عن دوافعها النبيلة المفترضة. كلّما قلّبتُ دوافع الحرب الروسية – الأوكرانية بعقلي رأيتُ أنّ المجانين الحقيقيين هم الأوربيون وزيلينسكي. كانت روسيا تقدّمُ للعالم (ومنهم الأوربيون بالطبع) مُنْتَجَيْن ستراتيجيين: القمح والطاقة بأسعار رخيصة للغاية. الإقتصاد الروسي لا يمكن أن يكون منافساً لإقتصاد الأتحاد الأوربي، وبالمقارنة مع الإقتصاد الأمريكي سيكون محض هباءة صغيرة؛ فالناتج السنوي لروسيا أقلّ من نظيره لإيطاليا وحدها؛ فكيف يكون الحال لو وضعناه بالمقارنة مع الإقتصادات ثقيلة الوزن لألمانيا وبريطانيا وسويسرا و،،،،،،،؟ ثمّ أنّ التقنيات الروسية تقتصرُ على مجالات محدّدة في الطيران والصواريخ والطاقة النووية ولا تمتدُّ إلى مجالات أبعد مثل الذكاء الإصطناعي أو تصنيع الرقائق كما تفعل الصين؛ فلماذا يشجّعُ الأوربيون إذن زيلينسكي ويدفعونه دفعاً للتحرّش بالدب الروسي؟ الأمر واضحٌ: أرادت أمريكا (الديمقراطية) بالتعاون مع الأوربيين إستخدام زيلينسكي مخلباً للتحرّش ببوتين (الديكتاتور) في ممارسات كان يمكن بسهولة الإبتعاد عنها وإبعادُ شبح الحرب بالنتيجة هل أرادوا جعل روسيا (بروفة) لكي تتعظ الصين منها؟ ثمّ ما هذه الوحشية التي تعامل بها الغربيون مع الروس؟ كان السلوك أقرب لِـ (ولية مخانيث) كما نقول في مفرداتنا الشعبية حتى أنهم حظروا تدريس دوستويفسكي وتولستوي وتشيكوف. بالتأكيد أصابت العقوبات روسيا بأضرار كبيرة؛ إذ لا رابح في الحرب أبداً؛ لكن العقوبات لم تقتل روسيا بل جعلتها أكثر عناداً وقدرة في إدامة عناصر العيش على المقدرات الذاتية وتفعيل العناصر الإقتصادية والعسكرية الساكنة التي كانت غير مفعّلة (أو قليلة التفعيل) في إقتصاد ما قبل الحرب. في المقابل إستنزفت الحرب مخزونات الأمريكيين والأوربيين من بعض أنواع الأسلحة. المثير أنّ نصف الأموال التي ذهبت لأوكرانيا إنتهت في جيوب الفاسدين الاوكرانيين.
أتعجّبُ كثيراً لبعض المواقف العربية والعراقية التي قرأتها وعاينتُها وهي ترى في وقف الحرب الروسية – الأوكرانية إستسلاماً لموسكو. قرأتُ تعليقات ساخرة على شاكلة (مبروك للرفيق بوتين!). كتب آخر أنّ الشعب الألماني لا يريدُ وقف المساعدات العسكرية لأوكرانيا. هو يعني القول بنزعة رغبوية واضحة: الشعب الألماني مع استمرار الحرب بالضدّ من بوتين. يريد إختزال روسيا بأكملها في شخص بوتين وهو يعلمُ أنّ الألمان عاقبوا المستشار الألماني والأحزاب المؤتلفة الحاكمة في الإنتخابات الأخيرة بأشدّ عقاب، وصوّتوا في المقابل لأحزاب من أقصى اليمين وأقصى اليسار لأنّهما يتشاركان نظرتهما المؤيّدة لإنهاء الحرب في أوكرانيا. ملّ الأوربيون من بعثرة أموالهم على أشكال عدّة من الفساد والفاسدين. الأوربيون قبل سواهم يوقنون أنّ بوتين قد يكون ديكتاتوراُ؛ لكنّه يعلم حدود قدراته ولن يجازف يوماً في التمدّد خارج نطاق الحدود التي يعرفها، ولن يكون تهديداً لأوربا أبداً. ليس كل الديكتاتوريين مجانين أو متغطرسين حتى لو إمتلكوا أعتى أشكال الأسلحة النووية التي تستطيعُ تحويل العالم إلى هباء مشتعل في دقائق.
حان وقتُ الصحوة من الإغفاءة المديدة التي أرادها الأوربيون للحرب في أوكرانيا. حان وقتُ تسديد الفواتير المؤجّلة، وكلٌّ سيجني ثمرة ما فعل بقسوة. كثيرةٌ هي الدروس التي نتعلّمها من هذه الحرب. أهمّها لا تجعل مقادير بلدك ألعوبة بيد آخرين يوهمونك بوعود مؤجّلة، والأهمّ من هذا أنّ (المجنون) الذي يضع نهاية للحرب هو أفضل لنا جميعاً من (العاقل) الذي أوقد نارها ونفخ فيها ثلاث سنوات ظلّ خلالها يتشمّمُ رائحة شواء الأجساد البشرية وهو يكتفي بقرع كؤوس الشمبانيا في محافل دولية لا يسمع فيها عويل الزوجات والأمهات والآباء والأبناء على جثث تتساقط من غير حساب.
أكثر من مليون ونصف المليون روح أزهِقت في تلك الحرب. هل يتذكرُ (ماكرون) العاقل ورفاقه من العقلاء الأوربيين هذا؟ إذا نسوا أو تناسوا فليتهم يصبحون مجانين.
جميع التعليقات 1
ابراهيم اللهيبي
منذ 1 يوم
احسنت على هذا الطرح الرائع والموضوعي ' في كل الحروب الجميع خسران ' المنتصر والرابح ولكن بنسب مختلفه .