علي الشرع
الهايبر ماركت العراقي ليست ببدعة جديدة، فهي اسواق منتشرة مثيلاتها في العالم منذ عقود تجمع للزبائن في مكان واحد كل ما يحتاجه من سلع متنوعة (اما في العراق فسوف يستغني عن الذهاب الى المحلات والأسواق الشعبية)، لكن المبتدع فيها هو أن الهايبر ماركت مصممة -وفقاً لاعلان افتتاحه- لتكون تعاونية وسلعها رخيصة الثمن من اجل تخفيف أعباء الحياة المعيشية عن المواطنين ودعم القوة الشرائية لذوي الدخل المحدود، مع انها متاحة للجميع ولا تميز ذوي الدخل المحدود من غيرهم! (لا ضير اذا تم اصدار هويات تسوّق خاصة لهؤلاء تبرز عند الدفع ليحصلوا على خصم).
ووجه الغرابة في هذا الإمر المبتدع هو أن الأسواق الشعبية والمحلات التي تبيع نفس السلع التي تعرضها الهايبر ماركت انما تعمل في سوق منافسة تامة، فلا يمكن تخفيض الاسعار من دون التعرض الى خسائر قد تفضي الى الخروج من السوق، ولهذا ينبغي التوقف عند هذه النقطة للنقاش حولها حتى نبحث عن مرتكزات نجاح هذه التجربة او تعثرها.
ولعل من اهم عوامل نجاح مثل هذه الأسواق في الدول الاخرى (غير العراق) - بصرف النظر عن السعي الى عرض السلع بأسعار مخفضة- هو عدم وجود أسواق شعبية كبيرة ومتعددة ومحلات صغيرة (للبقالة او للسلع المعمرة) منتشرة في كل مكان كالتي عندنا في بغداد التي بدأت تجربة العمل فيها في الوقت الحالي. وهذا يعني ان الهايبر ماركت ستواجه منافساً قوياً من الأسواق الشعبية والمحلات الصغيرة التي تمتلك ميزات لا تتوفر في الاسواق التعاونية. ومن اهم هذه الميزات أن العاملين في الأسواق الشعبية والمحلات هم من العاملين لانفسهم حيث اجرهم هو نفسه ربحهم، فحتى اذا انخفض ما يكسبوه يومياً الى 10 الاف دينار (300 الف دينار في الشهر) فلن يؤدي ذلك الى التخلي عن مهنتهم. اما في أسواق الهايبر فأن العاملين فيها هم عمال بأجر ثابت يستلموه في نهاية الشهر بصرف النظر عن تحقق الربح ام حدوث الخسارة في هذه الاسواق، وقد تضطر الى تسريح قسم منهم اذا لم يتم تغطية التكاليف التشغيلية لتلك الاسواق. اما الميزة الأخرى هو أن استهلاك الطاقة الكهربائية للأسواق الشعبية والمحلات لا شك هو اقل من ذلك المستخدم في اسواق الهايبر كون اسواق الهايبر تضطر الى تشغيل الكهرباء ليلا ونهاراً من اجل توفير الإضاءة في مكان مغلق كبير الحجم في حين لا تحتاج ذلك المحلات الصغيرة في الأسواق الشعبية وخارجها وتكتفي بالاضاءة الطبيعية. وفاتورة الأجور والكهرباء تمثل نسبة كبيرة من اجمالي بند التكاليف، وهي لا تقع في صالح الهايبر ماركت.
والخشية أنه اذا ما حدث تعثر في تغطية تكاليف تشغيل هذه الأسواق فقد تضغط وزارة التجارة من اجل القيام بحملة لشمول جميع العاملين في الأسواق الشعبية والمحلات بدفع الضرائب و/او حث امانة بغداد على رفع ايجار المواقع التي يحتلها الباعة من اجل تحقيق المساواة في الأسعار في الهايبر ماركت وخارجه او على الاقل التقارب بينها، لكن هذه الإجراءات ستدفع العاملين في هذه الانشطة الى رفع أسعار سلعهم، وسيكون اول المتضررين من جراء ذلك هم من تطلق عليه الحكومة بـ(الفئات الهشة)، وبذلك يفشل الهدف الذي انشأت من اجله هذه الأسواق بل سيزداد الامر سوءاً. وبدل ان تكون المنافسة بينهما هي المرشد الاساس في عملية تخفيض الأسعار اذا بنا نلجأ الى أساليب مضرة بالمستهلك والاقتصاد.
اما الحصول على ميزات تفضيلية هذه الاسواق من قبيل تخفيض الضرائب الجمركية على السلع الأجنبية المستوردة لحسابها او تخفيض او الغاء ضريبة الدخل على ارباحها من اجل تقوية الجانب التنافسي لهذه الأسواق حتى تنفرد بالسوق وهي بحلتها القشيبة لتحل تدريجياً محل الأسواق الشعبية المشوهة للعاصمة فضلاً عن امتدادها على مساحات واسعة مسببة الازدحام في الشوارع، فهذا يلتقي مع اهداف الحكومة بالتخلص منها وتحديث الأسواق في بغداد وبقية المحافظات. ولكن انهاء وجود مثل الأسواق الشعبية القريبة من المساكن التي لا تحتاج الى وسائل نقل للوصول اليها وتجتذب المستهلك ليس بالامر السهل، وما عسى ان يكون وزن اسواق الهايبر، مهما زاد عددها، من حيث حجم البضائع نسبة لحجم البضائع المعروضة في الأسواق الشعبية والمحلات في التأثير على الأسعار في بغداد بالاتجاه النزولي الا اذا تم إحلال أسواق الهايبر محل الأسواق الشعبية في نفس مواقعها وإزالة الأسواق الشعبية ومنعها من العمل او إعادة بناء نفسها من جديد في أماكن بديلة.
وحتى تنجح أسواق الهايبر التعاونية لابد ان تلجأ الى القيام بخدمات إضافية من قبيل مجاراة المحلات الفردية والمولات في توفير تسهيلات في بيع السلع المعمرة من خلال الأقساط للموظفين، او حتى توفير ميزة استثنائية مثل منح الزبون فرصة إعادة السلعة بعد تجربتها لمدة أسبوعين، وقد ينجذب المستهلك كثيرا للشراء من هذه الأسواق بسبب هكذا تسهيلات كونها تعمل تحت غطاء حكومي يفترض انه لا يتعامل بالسلع المقلدة. ولكن المشكلة في منح الزبون فرصة تجربة السلعة لاسيما الكهربائية منها لمدة 14 يوم تتجلى في أن الكهرباء غير مستقرة وقد يعطب الجهاز بسببها. وحتى تنجح مثل هكذا تسهيلات وتقليل التكاليف التي تتحملها الأسواق في حال إعادة الجهاز المعطوب فلابد من تصليحه او إعادة تأهيله في ورشة داخلية تابعة للأسواق واعادته للزبون مع لزوم تحديد عدد مرات الارجاع. وستحقق هذه الأسواق نجاحا وتستمر في عملها لو انها أنشأت لنفسها مزارع لتوريد السلع الزراعية والمنتوجات الحيوانية والزيت وسوائل التنظيف... الخ من السلع التي يمكن تصنيعها في العراق وتتوفر لها المواد الأولية (حتى يتحقق جزء من هدف الحكومة (غير الواقعي طبعاً) في ان السلع المنتجة في العراق ستشكل 60% من مبيعات هذه الأسواق)، بل انها ستكون محفزاً لتغذية خلفية لنشاط واسع يمتد الى بقية القطاعات. وكذلك من الممكن ان تقدم هذه الاسواق خدمة الدليفري المجاني لكل شيء فيها بما فيها الخضروات والفواكه وهو ما يزيد من اقبال المستهلكين عليها كونها تقلل من تكلفة ذهابهم لها (أجور النقل بالنسبة لذوي الدخل المحدود) والتوافق الزمني (بالنسبة لعمل الموظفين) وهي خدمات لا يقوى على تحمل تكاليفها العامل في الأسواق الشعبية. واذا تمكنت هذه الاسواق من القيام بكل ذلك فسوف ستكتسح السوق العراقي وتختفي من الوجود الأسواق الشعبية. ولكن اذا تمكنت أسواق الهايبر من إكتساح أي نشاط يقع خارجها في الأسواق الشعبية والمحلات من المنافسة فسنقع في مطب اخر، حيث أن ذلك سيؤدي الى خسارة لفرص عمل اكبر من تلك التي ستخلقها أسواق الهايبر، وسيلجأ هؤلاء الى التسجيل على الاعانة الاجتماعية التي ستضيف عبئاً جديداً الى الموازنة العامة.
ان هذه الاسواق ستشكل نقلة نوعية في تحديث نمط الاسواق والتسوق في العراق ولكن يجب ان لا يستمر دعمها على حساب الكفاءة. ولو صدق ظني فأن استمرار مثل هذه الاسواق سيكون منوطاً ببقاء نفوذ شخص في الدولة، فاذا خرج هذا الشخص من السلطة سيضعف نفوذه وتقل، ان لم تلغى، الامتيازات الممنوحة له، ومن ثم، لا مفر من تحويلها الى أسواق عادية وتتخلى عن أهدافها، وقد تمحى من لافتتها كلمة (التعاونية) حتى لا يحاسبها احد على غلاء اسعارها.