طالب عبد العزيز
في العام 2009 تسنى لنا، نحن طيف من مثقفي البصرة، زيارة المملكة العربية السعودية، وفي قاعة بمكتبة الملك عبد الله بن عبد العزيز، آنذاك، قيل لنا بأنَّ أكثر من سبعمائة وخمسين شخصية دينية بينهم خطباء وأئمة وعلماء جاؤوا مدن آماد المملكة كلها، واجتمعوا هنا، من أجل التهيئة لحوار يضم مختلف الفرق والطوائف والمذاهب والتوجهات يقصد به التقريب في وجهات النظر، وإمكانية قبول الآخر المختلف-المختلف يعني من غير مذهب الامام أحمد بن حنبل- وهو مذهب الغالبية من السعوديين، لكنَّ الذي حدث أنَّ النسبة الكبيرة جداً من هؤلاء غادروا القاعة، رافضين الحوار مع أيِّ آخر مختلف، ولم يبق منهم أكثر من سبعين رجلاً، بحسب أمين المكتبة فيصل بن معمر.
حتى السنوات تلك، كان المجتمع السعودي مغلقاً علينا، نحن الذين انقطعت علاقتنا السياسية والدبلوماسية بمحيطنا العربي-الإسلامي، بسبب طبيعة النظام والحروب التي افتعلها مع جيرانه، لذلك كانت فكرة الحوار من هذا النوع غريبة علينا، فهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تطبق بحديدها على السلوك العام، وهي مطلقة اليد بموجب التشريع، وهي هيئة أعلى من سلطة الملك، كما بدت لنا من أحاديث الأصدقاء السعوديين، في المدن التي زرناها، لذا، لم نصدِّق السيد بن معمر حين قال لنا بأنَّ التغيير في العالم إنما يأتي في العادة بضغط الشعوب على الحكومات، عبر التظاهرات والاحتجاجات، إلا في المملكة فأنَّ الضغط يأتي من الحكومة على الشعب، لكنَّ الشعب يرفض!!
لكنَّ الذي حدث في المملكة خلال السنوات الأخيرة أكَّد لنا صدقّ الرجل، إذْ لم ينتظر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رأياً من هؤلاء المشايخ، بل ذهب الى حلِّ الهيئة، وزجّ من رفض منهم بالسجن، وأخفى وجودهم بالكامل ثم بدأ بالتغيير، لعلمه بأنَّ هؤلاء هم النتوء الزائد في العجلة، إنْ لم يكونوا الجزء الخربِ فيها. قد نختلف مع الآلية التي تدار فيها السياسة والحياة بعامة، بحكم طبيعة تفكيرنا، لكنَّ الذي يحدث هناك هو التغيير عينه، والتحول الذي لا بدَّ منه، يقينا من المسؤولين بأنَّ الحياة والانسان أولى وأحقّ بالعناية من السلوك الذي يعتمده هؤلاء المشايخ، وأنَّ مواكبة التطور وبناء البلاد يستدعي العلم والعمل على اللحاق بركب الإنسانية، الذي لا يتنظر أحداً، وما كان قائما ذات يوم، بمسلماته الكثيرة يستدعي الزوال.
في حديث لي قبل ليلة مع نفرٍ من أمثال هؤلاء المشايخ تيقنت بأنَّ الحوار معهم صعبٌ ومستحيل، فهم لا يفهمون معنى الحوار، لغةً واِصطلاحاً، وهناك رفضٌ مقيت للآخر، أيِّ آخر، وعجبتُ كيف تتحول الادعية والقصائد والاوراد التي على السنتهم الى شواهد ودعامات في الحوار معهم. أدمغُ أحدهم بالآية والحديث فيكذب الحديث أو يضعفه، ثم يردني بدعاء حفظه أو ببيت من الشعر سمعه، يرفع من شأن أشياحه الى مرتبة التقديس، فيخلع عليهم الأُلوهةَ والربوبية، ويفهم العصمة على أنَّها مغادرة الجسد لأفعاله الوظيفية، نافياً عنه طبيعته الفيزياوية والإنسانية في الاكل والشرب والاستحمام وقضاء الحاجة، بإعتقاد منه بأنهم لم يخلقوا من لحم وعظم، ويحقِّرُ فيك كلَّ ذرةٍ من علم، بما يجعلك حائراً، يائساً من أيِّ تغيير. في حوار كهذا عليك أن تقول بأنَّ الفجوة تتسع بين مستعمل العقل وصاحب النقل، مع أنها قديمة بكل تأكيد، لكنها تبدو وكما لو أنَّ الزمن توقف في عقول هؤلاء، وبما تتضح وتتجلى عندك محنة أجدادنا من المعتزلة وأخوان الصفا وأصحاب الرأي، الذين تصدّوا لمثل هؤلاء قبل الف وأربعمائة سنة من اليوم.