عادل الثامري
صدرت المجموعة الشعرية "سيرك" عن منشورات دار النهضة العربية في بيروت، لبنان، 2025، للشاعرة والإعلامية اللبنانية نور خليفة، وتزين غلافها لوحة Soir bleu للفنان إدوارد هوبر، التي تعكس جمالية الاغتراب والوحشة الوجودية، وهي ثيمات تتردد بقوة في فضاء النصوص.
تستبطن مجموعة "سيرك" أسئلة جوهرية عن الهشاشة الوجودية والتلاشي والعطب النفسي، وهي موضوعات لها علاقة وثيقة مع إرث الشعر الحداثي الذي ارتكز على تفكيك البُنى السردية التقليدية وإعادة تشكيلها ضمن رؤية تقوم على الحفر في البنية العميقة للذات. يتبدى ذلك عبر لغة تقوم على الانزياح والتكثيف والتقطيع الإيقاعي، الامر الذي يقرب تجربة القراءة إلى عملية تفكيك متأنٍ لأنساق دلالية متشابكة.
تنطلق الشاعرة من فضاء الذات بوصفها كيانًا متشظيًا يسعى إلى التماسك عبر إعادة تدوير التجربة في صيغتها اللغوية، وهو ما يظهر في النصوص التي تمزج بين التقريرية الموحية والتشظي الأسلوبي. ففي نص تلويح، تتكرر الجملة "هذا ما فعل الأحبة، هذا ما فعل العدو" في بناء تكراري يحاكي الاستنزاف النفسي الناتج عن التكرار العبثي للعنف. إن هذا الاستعمال الإيقاعي للثنائية الضدية يضع القارئ أمام دينامية دلالية مفتوحة، يتلاشى فيها الخط الفاصل بين الحميمي والعدائي، بين الألفة والقسوة، في سياق تأملي يتجاوز البعد الإخباري.
تعتمد المجموعة على البنية الفسيفسائية للنصوص، حيث تتجاور القصائد في تتابع لا تحكمه خطية سردية بقدر ما يتحكم فيه منطق التداعي الحر والتشظي الدلالي. تتجلى هذه التقنية تتجلى في نص" امرأة تحب البحر ولا تعرفه" الذي تُفكّك فيه الشاعرة الميثولوجيا الرومانسية للبحر بوصفه فضاءً للخلاص، لتقدمه كمجاز للخوف والرهبة من الامتلاء والتماهي. وهنا، يتحول البحر إلى نقطة تماس بين الوعي واللاوعي، بين التوق إلى الانغمار والرغبة في البقاء خارج الدائرة.
يبرز التناص بوصفه استراتيجية نصية محورية في "سيرك" فالإحالات إلى نصوص فلسفية وأدبية متعددة، سواء من خلال الاقتباس المباشر كما في الاستهلال الذي يتضمن مقولة أنتونان آرتو "يلزمنا الكثير من الألم لنتوصل إلى الولادة" أو من خلال الاستلهام البِنيوي كما في نص "غطائي الأبيض" الذي يستدعي أجواء الأسطورة اليونانية المتعلقة بـ لوتوس، تعكس انشغال النص بخلق شبكة دلالية متداخلة تربط الشخصي بالجمعي، واللحظي بالأسطوري.
يقوم البناء الشعري في المجموعة على مفارقات لسانية ورمزية تُثري البعد الدرامي للنصوص. ففي "نشرة أخبار مسائية" تستدعى الميديا بوصفها سلطة مركزية تُعيد إنتاج الهويات عبر آلية الإدراج والاستبعاد. تتجلى هذه الفكرة في المونولوغ الداخلي الذي يتمحور حول انتظار الاسم في الأخبار، مما يحوّل الفرد إلى كائن مشروط بالاعتراف الخارجي، في انعكاس حاد لثنائية الوجود والعدم. هذه الثيمة تستعيد في جوهرها الطرح الفلسفي عن "الوجود-من-أجل-الآخرين"، اذ يتحول الحضور إلى مشروطية قائمة على أن يكون المرء مُلاحظًا أو مذكورًا في الخطاب العام.
تُمارس الشاعرة اشتغالًا دؤوبًا على تفكيك الصورة النمطية للطفولة بوصفها فضاءً للبراءة، فتتحول الطفولة في بعض النصوص إلى بؤرة قلق وجودي. يظهر ذلك جليًا في نص " أربع أصابع فقط" حيث يعاد تشكيل صورة ميكي ماوس في وعي المتكلمة من رمز مرح إلى كائن مشوّه ينطوي على دلالات رعب ضمني. تستند البنية السردية، هنا، إلى تقنية التناوب بين الواقعي والغرائبي، مما يخلق تراكبًا دلاليًا يُتيح مستويات متعددة من القراءة، تمتد من النقد الثقافي للرموز الاستهلاكية إلى الطرح النفسي القائم على استبطان الخوف والتشوه الإدراكي.
لا تنفصل البنية الإيقاعية في "سيرك" عن بنيتها الدلالية، اذ يتسم الإيقاع بتفاوت ملحوظ يعكس طبيعة التجربة المتأرجحة بين الانفعال والانكسار. فبينما تعتمد بعض النصوص على جمل قصيرة تتسم بالتقطيع الحاد كما في "حرب" نجد نصوصًا أخرى تنسج إيقاعًا طويل النفس، كما في "سيّدي البحر!" التي يتصاعد فيها البناء الشعري في حركة موجية تحاكي ترددات البحر ذاته. هذه الدينامية الإيقاعية تساهم في خلق توتر صوتي يُحاكي الطبيعة التفكيكية للنصوص.
تمثل مجموعة "سيرك" تجربة شعرية تتسم بعمق نفسي ووجودي، تشتبك النصوص فيها مع الأسئلة الجوهرية للوجود والعطب والتلاشي. وعبر لغة تتراوح بين الحسية والتجريد، تخلق نور خليفة فضاءً شعريًا ينتمي الى ارث الشعر الحداثي في نزوعه إلى كسر القوالب التقليدية، سواء على مستوى البنية أم الدلالة. ليست هذه المجموعة مجرد تمارين لغوية في الكتابة الحداثية، بل هي تجربة وجودية تُصاغ عبر الكلمة، في محاولة لجعل الشعر وسيلة لفهم الذات والعالم. في "سيرك" تقف الذات الشاعرة على الحافة، مدركة أن السقوط ليس احتمالًا بعيدًا، بل هو جزء من قوانين اللعبة.
"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

نشر في: 5 مارس, 2025: 12:02 ص