TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: مسلسل معاوية... جرُّ القناعات الى مسلخ الأوهام

قناطر: مسلسل معاوية... جرُّ القناعات الى مسلخ الأوهام

نشر في: 9 مارس, 2025: 12:03 ص

طالب عبد العزيز

مع أنَّ كلَّ تعريف للتأريخ يرجع الى وجوب توافر الوثيقة، إذْ لا تأريخ بدون وثيقة، إذْ أنه الأحداث والوقائع التي تقدّمها لنا الوثائق والمصادر، كما تعرف كلمة 'التاريخ' في اللغة العربية على أنها تعبّر عن مفهوم الوقت، وهكذا، نجدُ أنَّ التأريخ علم مغرقٌ بالشكوك والاباطيل، وربما يصحُّ تعريفه عند البعض بأنه الوهم المبحوث عنه في كتب الحقيقة. وهذا عبد الله العروي يعرّفه بقوله:" التأريخ من صنع المؤرخ، فالمؤرخ هو من ينتقي الاحداث التاريخية المحفوظة، ليصنع الانساق ويستخلص الحقائق".
كلنا يعرفُ أنَّ التاريخ العربي من أقصاه الى أقصاه مكتوب في حضرة الخليفة والأمير والوالي، وقليل القليل منه هو الذي كتب خارج هذه الأمكنة، وفي البحوث والدراسات الحديثة قام بيننا كثير من الباحثين والمفكرين والقارئين له بهدايتنا الى حقائق ما كنا لنعرفها قبل خمسين سنة، في أقل تقدير، عرفنا فيها حيثيات التدوين التاريخي، والتي منها أهواء وميول وغايات المؤرخين، والسنوات التي أمضاها بعضهم هنا وهناك، في كنف هذا وذاك، ودوافع الكتابة، وقرأنا عن (الشجاع) الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، وعن (الجبان) المنتفع من المال في حضرة سيده، وهكذا، صُنعت الانساق ولم تُستخلص الحقائق، فقد ترسخت في عقولنا عبارات جاهزة مثل تاريخ فلان، وعصر فلان، وعظمة فلان، ثم دين فلان، وبطولة فلان، وخيانة فلان،.... أمّا الحقيقة فهي الوهم الأكبر.
قد تصلحُ الديباجة هذه لقول شيءٍ مناسب في مسلسل(معاوية) الذي أفتى بعض علماء السنة بعدم جواز تمثيل شخصيات الأنبياء والصحابة لأنهم ممن يتنزل الوحي عليهم، وطالب بعض علماء الشيعة بعدم عرضه للسبب هذا ايضاً، أو لشخصية معاوية الإشكالية عندهم، واختلف العامة من الفريقين بشأنه، بين معارض وناقم ورافض ومهدد، وتشدد البعض الآخر فخوّن وهاجم، منصِّباً نفسه حجةً في معرفة حقيقة معاوية والفترة تلك، وكلٌّ له حجته واسانيده، وكلُّ يشنِّعُ على خصمه كتبَه ومصادرَه ورجالاته، غير موقنين بأنَّ التأريخ الذي وصلهم ووصلنا مجتمعين كان من صنع المؤرخ، الذي تتقاذفه الاهواء، وتستميله الدراهم، وتدفعه الغرائز والعواطف، وأنَّ الحقيقة هي آخر ما يمكن التوصل اليه.
نعتقد بأنَّ أمتنا العربية-الإسلامية هي الوحيدة بين الأمم التي تتعامل مع التاريخ بوصفه مدخلاً للمستقبل! لا بوصفه وقائع وأحداث لم تعد قائمة اليوم، وهي ملك زمن لا علاقة لنا به، وأنَّ قرابة قرنٍ ونصف من الزمن تفصلنا عنه، لذا، لا يصلح أسقاطه على واقعنا اليوم، وأنَّ القرآن ذاته يرشدنا الى ذلك في قوله {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ..} ترى، ماذا لو تعاملنا مع مسلسل معاوية بوصفه محض عمل درامي، نشاهده، نحزن أو نضحك أو نسخر أو نتفاعل مع أحداثه مثلما تفاعلنا مع أعمال درامية كثيرة كباب الحارة على سبيل المثال، لا نسأل عن صدقية الحدث، ولا ورع وفجور الممثل، أليس العمل(تمثيل) فما نحن والتمثيل، ولماذا نجرُّ قناعاتنا الى مسلخ الأوهام؟.
كلُّ قارئٍ منصف للتأريخ يعرف حقيقة معاوية، الموصوف بقول النبي في معنى الطلقاء، وهم الذين دخلوا الإسلام بعد الفتح، وأنّه لم يبايع علياً بالخلافة بعد إجماع المسلمين في الامصار كلّها عليه، وأنّه أوّل من خالف الصحبة في قضية ولاية المسلمين بتحويلها الى ملك عضوض، وأنه في حلٍّ من الناس في عبادتهم، وأنَّه استخلف ابنه يزيد، المعروف عند العرب بفسقه وفجوره، وهناك المئات من المثالب، التي تطعن في شخصه وسلوكه، بحسب ما وصلنا في المصادر المعتمدة عند الفريقين. ترى، هل يستطيع عملٌ دراميٌّ، وصف بالضعف عند المعنيين بالدراما قلب الحقائق وتزوير الاحداث؟
لكنْ، وبعيداً عن منطقة الخلافات الدينية-الإسلامية- الأخلاقية- العاطفية... الخ ألم يؤسس معاوية لدولة عظيمة؟ ألا يحسب له أنَّهُ مدَّ خريطة العرب المسلمين في الأرض الى ما لم يكن في التوقع والحسبان؟ وهلّا تحدثنا عن فكرة بناء الدولة بالمعنى المتعارف عليه اليوم، في البناء والجيش والاقتصاد وسك العملة والتعاملات الدبلوماسية وسواها؟ ترى، لماذ تطغى قضية الدين والتدين، وهي شأن إلاهيٌّ على فعل السياسة والبناء والاقتصاد؟ ألم يئن الوقت لنا معاينة التاريخ بأنّه عملٌ دراميٌّ حسب؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: محبة عراقية

العمود الثامن: بين مستشار ومستشار

العمود الثامن: فتوى المشهداني

العمود الثامن: غزوة علي الطالقاني

هنري كيسنجر و"خادم الشعب"

العمود الثامن: غزوة علي الطالقاني

 علي حسين يترجل السيد علي الطالقاني من " جكسارته " الحديثة ، يحيط به فوج من الحماية الذين يمنعون " الفضوليين " من الشعب الاقتراب من " فخامته " . يقف على كورنيش...
علي حسين

قناديل: رضيتُ من الغنيمة بالمستشارية.. !

 لطفية الدليمي المستقبل هاجسٌ لكلّ من يتفكّرُ في مآل العالم والبشر، ولأجل هذا صار مبحث المستقبليات Futurology مبحثاً ستراتيجياً تُخصّصُ له أعلى الكفاءات والموارد. أسبابٌ عديدة تجعل التفكّر في المستقبل هاجساً لا يمكن...
لطفية الدليمي

قناطر: البصرة في جذع النخلة.. الطالقاني على الكورنيش

طالب عبد العزيز يوعز أحدُ محبي لعبة كرة القدم نتيجة التعادل بين فرقي العراق والكويت الأخيرة بملعب جذع النخلة الى أنَّ أعضاء الفريق العراقي كانوا يلعبون وعيونهم مشبوحة الى أحد مداخل الملعب باحتمال دخول...
طالب عبد العزيز

كيف يحرر التفكير النقدي عقولنا من قيود الجهل والتبعية؟

محمد الربيعي في عالم يمتلئ بالادعاءات الكاذبة والجهل والخرافات، ويموج بالتحديات والتحولات، عالم يتلاعب فيه السياسيون بنا وبأفكارنا، ويسوقوننا في دوامة من الفساد ونهب الاموال، يبرز التفكير النقدي ليس فقط كأداة حيوية للشخصية، بل...
د. محمد الربيعي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram