د. نادية هناوي
يُعدُّ ميخائيل باختين واحدا من النقاد الغربيين المهتمين بدراسة السرد الأوروبي الشعبي، لكنه في كتابه (أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وأبان عصر النهضة) يعد الأول الذي خص أعمال رابليه الكاملة المسماة(لابلياد) بدراسة موسعة، نال بها أطروحة الدكتوراه عام 1946. ونشرت لأول مرة في شكل كتاب وباللغة الروسية عام 1965 وترجم إلى اللغة الفرنسية عام 1970. وترجمه شكير نصر الدين الى اللغة العربية عام 2015. وفيه أتى باختين بأفكار جديدة وتحليلات مثيرة، سَلطت الضوء على الحكاية الهزلية وتاريخها الممتد إلى آلاف السنين مؤكدا (أن الأصالة العميقة للثقافة الهزلية الشعبية القديمة لم يتم الكشف عنها بعد) لكن ثمة اعتراضات وملاحظات على تتبعه لتاريخ الحكاية الهزلية بطريقة انتقائية.
فمثلا أنه يرى الضحك والهزل من اختصاص الشعب الذي يضحك في الساحة العامة، وهو قول يتناقض مع تحديده أصل الأدب الهزلي بالعصر القديم المسيحي أي بما لا يزيد عن ألف سنة عن العصر الوسيط. ولا خلاف في أن أصل الحكاية الهزلية أقدم من ذلك بكثير أي من قبل أن يعرف المجتمع البشري صراع الطبقات في المجتمع الروماني ومن قبل ظهور الأديان السماوية في المجتمعات السامية. ولقد قامت هذه الحكاية على قاعدة لا واقعية خرافية هي المنطلق لظهور الأنظمة السردية القديمة.
وبطبيعة الحال تجنب باختين ذكر الشرق والحضارة العربية الإسلامية باستثناء موضعين مر بهما مرورا عابرا، الأول قوله:(في الأشكال والعبادات الدينية الموروثة عن العصر القديم المفعم بتأثير الشرق يلاحظ بوادر المرح والضحك أحيانا المحتفية في الطقوس الدينية والجنائزية في التعميد أو الزواج) والثاني قوله وهو بصدد تحديد دور سانشو في (دون كيخوته):(الدور الذي يلعبه إزاء دون كيشوت نشبهه بدور باروديات العصر الوسيط إزاء الأفكار والطقوس السامية وبدور المهرج إزاء المراسيم الحادة وبدور إباحة أكل اللحم إزاء الصيام) ولم يتعمق باختين في توضيح دلالة " التقاليد الموروثة" الواردة في قوله:(كل أشكال الشعائر والعروض الفرجوية المنظمة على الصيغة الهزلية والمكرسة من قبل التقاليد الموروثة كانت تنتشر في كل بلدان أوربا)
ونلمس تعارضا في تأكيده أن الكرنفالية هي الأصل والمثال الطوباوي لمرحلة الحضارة البدائية وفلكلور الشعوب البدائية والملحمة البطولية القديمة وطقوس العالم القديم(لقد تم إدراك فكرة الكرنفال وتجلت بطريقة بالغة الدقة في أعياد الإله زحل الفلاحية الرومانية.. وقد ظلت تقاليد أعياد زحل حية في كرنفال العصر الوسيط) فهذا الكلان يتناقض مع تحليلاته لأعمال رابليه التي فيها تتحول الكرنفالية من كونها أصلا تاريخيا إلى فكرة كونية(طبيعة الكرنفال الخصوصية انه صيغة خالصة للوجود) كما تتناقض مع تحديد الكرنفالية بأنها الحياة كلها / حياة الشعب الثانية /الشكل الأولي للحضارة الإنسانية والمحتوى الجوهري والمعنى العميق عن تصور العالم / تصور محدد وملموس للزمن الكوني/ انتصار لنوع معين من التحرر المؤقت من الحقيقة السائدة/ النظام القائم والإلغاء المؤقت لكل العلاقات التراتبية والامتيازات والقواعد والتابوهات. ولعل السبب وراء هذه التحولات في الفهم الباختيني هو عدم تلاؤم الكرنفالية بمعناها المسرحي مع هزلية فرانسوا رابليه التي فيها الكرنفالية سمة فنية، وليست أصلا أو قاعدة.
أما إشارة باختين إلى أن الحمقى والمهرجين هم من يمثلون كرنفال العصر الوسيط، فجاءت كمحصلة لتفسيرات حركات دون كيخوته الجسدية مما يعني أن كرنفالية الحكاية الهزلية هي غير كرنفالية المسرحية الكوميدية التي تصور الواقع على نية محاكاته محاكاة ساخرة على وفق قانون الاحتمال الأرسطي. في حين كانت المحاكاة الساخرة التي عرفتها المرويات القروسطية تقوم على قلب الواقع لفظيا بالتخييل ولهذا اتخذ السرد شكلا غير واقعي هو امتداد للحكاية الخرافية التي هي أصل الحكاية الهزلية ولولا امتلاك دون كيخوته جسدا غير مألوف الشكل(كرش يتدلى) لما كان مضحكا. وهزلية هذا الشكل جعلت باختين يفسر أبعاده تفسيرات ثقافية، منها هذا التفسير:(يختلط كل أفراد العصر الوسيط ببعضهم بقدر يقل أو يكثر وفيها يتعايشون لمواقيت محدودة. وقد خلق هذا الأمر نوعا من ثنائية العالم ونقول إنه إذا تجاهلنا هذه الثنائية فإننا لن نفهم الوعي الثقافي السائد في العصر الوسيط ولا حضارة عصر النهضة. ان جهل وتبخيس الضحك الشعبي في العصر الوسيط يشوهان صورة التطور التاريخي بأكمله الذي شهدته الثقافة الأوربية في القرون الموالية). ولم يفصح ميخائيل باختين عن طبيعة هذا التطور التاريخي ومن الذي أثر في الثقافة الأوروبية؟!
وبالمقايسة على هزلية بطن دون كيخوته توصل باختين إلى أن(واقعية النهضة لم تقطع حبل السرة الذي يصلها بالبطن الخصب للأرض والشعب) وترك فرضيته الكرنفالية وتبنى فرضية جديدة هي غروتيستكية الجسد وعليها تقوم باروديا دون كيخوته(صور الجسد وسط ذلك الركام الهائل من الخرافات والأعمال التي تتصل بعجائب الهند وكذاك البحر السلتي.. أدب مشاهد أحوال الآخرة ذلك الأدب الوافر وهو الذي يحدد كذلك صور خرافات العمالقة ونجد بعضا من عناصره في الملحمة اليونانية في النوادر وفي الطرائف الألمانية) ولكن فرضية غروتستيك الجسد لم تحمل باختين على الإجابة عن سؤال من أين ورث ثرفانتس تقاليد الحكاية الهزلية؟
ويماثل باختين في التجاهل، الناقد الانجليزي ايان واط الذي انتقد الحكاية الهزلية في قصص العصر الوسيط، سعيا منه إلى تثبيت دعائم الفكر الواقعي في السرد، ومثاله فيلدنغ في روايته(جوزيف اندروز) 1742 وعدها (مكتوبة على نحو متعجل وبمقاصد مختلطة نوعا ما فهي تبدأ بمحاكاة ساخرة لرواية ريتشاردسون باميلا ومن ثم تتواصل بروح سرفانتس) في حين نقل عن فيلدنغ حكاية ساخرة وصفها بالمفعمة حيوية والناجمة عن تفاعل الشخصيات. وفسر واط الأمر بأنه تركة من تركات الملحمة الهومرية.
وعد ايان واط سنة 1742 بداية كتابة الرواية بعد أن كانت شكلا أدبيا سمعته في الحضيض لأنه كان يسير على منوال أدباء الرومانس لكن(ظهور روائيينا الثلاثة ديفو وريتشاردسون وفيلدنغ خلال جيل واحد لم يكن مصادفة محضة وانه ما كان لعبقرياتهم أن تخلق الشكل الجديد لو لم تكن شروط عصرهم مواتية.. ولو كانت الرواية واقعية لمجرد أنها نظرت إلى الحياة من جانبها الأسوأ، فإنها ليست حينئذ إلا رومانسا مقلوبا لكنها حاولت أن تصور كل تنوعات التجربة الإنسانية) وفي هذا القول انتقائية واضحة: أولا من الناحية التاريخية، لأن أدب عصر النهضة نهل من السرد القديم واستمد تطوره منه أيضا. وثانيا من الناحية الفنية، لأن الشكل السردي لا ينبثق من فراغ والمحاكاة الساخرة كانت زمن هؤلاء الروائيين تقليدا سرديا قديما جرَّبوا فيه وطوروه. أما قول واط: إن الرواية أثارت ما لم يثره شكل أدبي آخر وهو التوافق بين العمل الأدبي والواقع الذي يحاكيه، فليس وراءه سوى تعظيم ديكارت ومنهجه في الشك ناهيك عن الانحياز والتخندق عند العنصر الابيض وأوروبية نشأته. ولا غرو أن الأدب منذ الأزل ينطلق من الواقع ويعود إليه باللامحاكاة أو المحاكاة أو بهما معا.
إن انتقائية الناقد الأوروبي للسرد العربي القديم المتماس جغرافيا وتاريخيا مع أدبه وتجاهله شبه الكامل له، هو من قبيل المفارقة التي فيها ينفر الناقد الغربي من الرومانسية والتعصب لفظيا ولكنه يطبقهما عمليا، فيغالط بذلك قوانين الفن والحياة. وما بحث ميخائيل باختين عن الأصالة في الحكاية الهزلية سوى انتقاء انحيازي واضح إلى أدب الإغريق والرومان.
انتقائية باختين والثقافة الشعبية

نشر في: 9 مارس, 2025: 12:02 ص