لطفية الدليمي
تتكرّرُ على مسامعنا كثيراً عبارةٌ قالها (غوبلز) وزير الدعاية النازية: كلّما سمعتُ كلمة (الثقافة) تحسّستُ مسدّسي. اليوم صار كثير ٌ منا يتحسّسُ رائحة أزمة عالمية النطاق كلّما سمع مفردة (الجديد) ملحقةً بتيار ثقافي أو مفهومٍ أو سياسة. الأمثلة كثيرة لو شئنا ذكرها. يكفي أن تضع سابقة (neo) قبل المفردة الانكليزية أو (الجديد/ الجديدة) بعد المفردة العربية حتى تشهد سحراً يمسّها ويجعلها تحلّقُ في فضاء غير ذاك الذي اعتادت التحليق فيه من قبلُ. ربّما وحده كتاب (الأورغانون الجديد) لفرانسيس بيكون ظلّ محافظاً على وهجه التنويري رغم أنّه كُتِب قبل بضعة قرون.
إطلالتي الأولى مع (الجديد) جاءت من بوّابة الرواية: الرواية الجديدة Nouveau Roman كما سمّاها مبتدعها الفرنسي آلان روب غرييه الذي دافع عن مفهومه الجديد للرواية في سلسلة محاضرات ألقاها في بغداد منتصف ثمانينات القرن الماضي. لم يلقَ مفهوم الرواية الجديدة تعضيداً عالمياً، وتُرك ليذبل سريعاً كما شأن الكثير من المبتدعات المفاهيمية الفرنسية التي غالت في شكلانيتها المرهقة. كيف أتوقّعُ من الرواية أن تكون درساً خالصاً لِ (هرمينيوطيقا تأويلية) على الطريقة الفرنسية؟
ثمّ هناك الإستشراق الجديد. كان الدرس الإستشراقي الكلاسيكي متخماً بالقيمة المعرفية، ثم استحال على أيدي الإستشراقيين الجدد شيئاً مثل خبرة جاهزة تُصنَعُ طبقاً لما يريد أرباب السياسة. انتقلت الخبرة الإستشراقية الجديدة من قلب الجامعات العريقة إلى بيوتات صناعة وتشكيل الرأي العام، وصار الإستشراق الجديد يُطبخُ بسرعة قياسية ويُعامل كمنتج تقني: صاروخ كروز مثلاً أو أحد المسيّرات القاتلة.
الليبرالية هي الميدان الثالث الذي جاء تطبيقاً فائق السوء للجديد. الليبرالية هي، ببساطة شديدة، حاملة شعلة الميراث الأسمى لعصر التنوير الأوربي والعقلانية الإنسانية والارتقاء القيمي
البشري وتحرير العقل من مقيّدات الخرافة ومعيقات الإنطلاق العلمي والتقني؛ لكن ما أن سبقتها مفردة (الجديد) وصارت (الليبرالية الجديدة Neoliberalism) حتّى خرجت عن سياقها واستحالت مفهوماً إقتصادياً خالصاً يبشّرُ بتغوّل لا يشبع لرأسمالية منفلتة.
أمّا أكثر المفردات التي خالطتها الجدّة وأحدثت انقلاباً فيها فهي اليسار. ارتبط اليسار تاريخياً مع الماركسية والشيوعية؛ لكنما هذا الإرتباط يبدو تقسيمياً وقسرياً ونزعة آيديولوجية تمييزية إلى حدّ بعيد. اليسار في مفهومه العام هو قرينُ الأخلاقيات الإنسانية الرفيعة، وأظنُّ هذا هو ما جعله لصيقاً بالماركسية. الحسّ الإنساني العام والرفيع ليس حكراً على الماركسية بالتأكيد؛ إذ أنّ معظم المفكّرين والفلاسفة الغربيين كانوا ذوي منازع إنسانية يمكن وصفها باليسارية في جانبها الأخلاقي القائم على الإحساس بضرورة العدالة والمساواة والتكافؤ الإجتماعي. لم يخفت وهج الماركسية في العالم حتى اليوم، وثمّة الكثيرُ من الأصوات الأكاديمية اللامعة والرصينة في قلب الجامعات الأمريكية تدعو إلى مزاوجة الماركسية بالرأسمالية سعياً لبلوغ تركيب إقتصادي-سياسي أكثر ملاءمة وعدالة للمعيش البشري. قد لا تنجح المحاولة في عصرنا هذا، وقد تنجح بعد خمسين أو مائة سنة. المحاولة هي الأهمّ. ليست الماركسية في النهاية شيطاناً كما يصوّرها بعض عتاة اليمين. الماركسية نظرية إقتصادية-ثقافية مركّبة وليست تخليقاً آيديولوجياً مقفل العقل والروح، وهي في هذا الجانب الإرتقائي الخاص تشبه الرأسمالية تماماً.
بدأت بواكير اليسار الجديد منذ منتصف خمسينات وستينات القرن العشرين، وكانت تلك البواكير مقبولة ولها معقولية مسوّغة: الخروج من جلباب الرؤية الشمولية الصارمة لمفاهيم الأحزاب الشيوعية في الغرب لتتناغم مع مواريثه السياسية والثقافية. أراد اليساريون الجدد تلطيف الشمولية بحسّ ديمقراطي تَعزّز في الثورة الثقافية عام 1968، وليس غريباً أن يكون (هربرت ماركوز) مؤلّف كتاب (الإنسان ذو البعد الواحد) هو أحد عرّابي اليسار الجديد.
لستُ أسعى هنا لكتابة سرد تاريخي لمسيرة اليسار الجديد؛ لكنّ ما أريدُ التأكيد عليه هو أنّ هذا اليسار إنتهى إلى رؤية غريبة لا علاقة لها بالمعضلات الإنسانية العامّة التي توصف بأنّها عالمية النطاق Large-Scale. لو شئتُ توصيف إنشغالات اليسار الجديد لقلتُ أنّها مغالاةٌ في الجسدانيّة: جَعْلُ الجسد البشري بتكويناته البيولوجية محوراً لثقافة جندرية تغوّلت حتّى صارت تخاطبُ الحقوق الإنسانية عبر لافتات ثقافية وإنسانية فضفاضة وقسرية ومفتعلة تتشمّمُ منها رائحة مؤامرة.
تموضَعَ اليسار الجديد في أروقة الجامعات وتعشّش فيها عبر مبحث الدراسات الثقافية التي صارت شيئاً فشيئاً تُعلي شأن دراسات الأقلّيات والهجرة والتمايزات الجندرية والهوية. يحدسُ المرء المتابع بدقّة لتاريخ هذه الدراسات وكأنّها صُمّمت لسيطرة جماعة من الدخلاء على مفاصل السلطة الحقيقية في البلدان متذرّعةً بشعارات العولمة تمهيداً لإحداث إنقلاب مفاهيمي للفرد بشأن كلّ الموضوعات الجوهرية في العالم، ويبدو أنّ الهدف الأعلى هو تخليق أفراد متمركزين على ذواتهم بما يشبه عصاباً جماعياً لا حدود لمدياته. امتدّ تغوّل اليسار الجديد حتى بلغ آفاقاً منفّرة تحاصرك أنّى ولّيت وجهك: تفتح موقع (نتفليكس) مثلاً للتمتّع بفيلم سينمائي جديد فترى أنّ (المثلية) حاضرة فيه بما يشبه الإلزام أو الشرط المسبّق. أذكر في هذا السياق عندما أعلن (بايدن) تشكيلته الحكومية حرص على وجود نسبة كبيرة من ذوي البشرة السوداء فيها: وزير الدفاع، ورئيس الأركان، وممثلة أمريكا في الامم المتّحدة، وحتى الناطقة بإسم البيت الأبيض كانت سوداء ومثلية. يتشمّم المرء رائحة فاسدة في الأمر. ثمّ هناك هذا القانون السيّئ المسمّى DEI، وهو اختصارٌ لمفردات التنوّع والمساواة والشمول، مفادُهُ يتوجّب عليك كحكومة أو قطاع خاص أن توظّف نسبة من السود والمهاجرين وذوي التمايزات الجندرية حتى لو تعارض هذا مع معايير الكفاءة. شيء أقرب إلى إعلاء شأن الموالاة الحزبية والعشائرية على الكفاءة المهنية بالكيفية التي حصلت وتحصل عندنا.
أخطرُ المفاعيل التي ستنجم عن سياسات اليسار الجديد هو تعاظم قانون الأصوليات المتقابلة. اليسار الجديد بات أقرب لتيار أصولي يبعث على الغثيان، ومن البداهة الناجزة أنّ كلّ أصولية ستعمل على صناعة أصولية مقابلة أكثر عنفواناً منها. حتّى أكثر الناس رهافةَ حسٍّ ورقّةٍ إنسانية سيشعرُ وكأنّ (يداً خفية) تديرُ اللعبة من وراء ستار تمهيداً لإنقلاب خطير في المفاهيم والسياسات، وسيشعر أن لا فكاك من إعتماد سياسات خشنة طالما أنّ السياسات الناعمة لم تعمل إلّا على مفاقمة تغوّل أصولية اليسار الجديد. أظنّ هذا هو ما يحصل اليوم في أمريكا والقارة الأوربية. سيجتاحُ اليمين العالم الغربي، وسنشهدُ سياسات خشنة سيصطلي أصوليو اليسار وسائر الأصوليات الأخرى بنارها الحارقة. هكذا هي نهايات الأصوليات التي تتذاكى وتسعى لنهش المجتمعات عبر ما تحسبه خاصراتها الليّنة سهلة الإختراق.
ليست لي مشكلة مسبّقة مع اليسار الجديد، ولستُ من مناصري اليمين. لم أعُد أحفل بالجهات الآيديولوجية. الأعالي والأعماق فقط هما ما يشكّلان منطقة اهتماماتي. المعضلة بالتحديد مع اليسار الجديد تكمن في أنّه تمحور على إنشغالات جسدانية، وهذا التمحور بوّابة لشتى صنوف العصاب المرضي كما هو مشخّصٌ في علم النفس الإكلينيكي. هل تتخيّلون كيف هو المستقبل عندما لا تترك فتاة النظر إلى وجهها في المرآة ولا ترتاح لرؤية تقويسة أنفها التي لا تشبه تقويسة أنف فلان أو فلانة؟ كيف نتوقّع أن يهتمّ مثل هؤلاء بأمر المعضلات العالمية المهدّدة للبشر وهم مستعبدون لرؤية أجسادهم في المرايا صباح مساء، أو يتساءلون: ما نوعي الجندري؟ هل أقرّرُ أن أكون رجلاً أو إمرأة بعد الآن؟ الأمر ليس مزحة. إنّه معضلة عالمية حقيقية واسعة النطاق.
لو أنّ أمراً يسعدُني في كلّ هذه المعارك الآيديولوجية فهو أنّ الماركسية لم تتلوّث حتى اليوم. لم نسمع حتى اليوم بعبارة (الماركسية الجديدة)، وظلّت الماركسية محافظة على رصانتها الإنسانية حتى لو خضعت لتحديثات مفاهيمية يرى فيها كثيرون إنقاذاً لرأسمالية نيوليبرالية مؤذية للإنسان والبيئة.
أتخيلُ عظام ماركس وهي تضجُّ في قبرها وتتساءل: ما هذا اليسار الذي تسمّونه جديداً؟ أهذا هو الذي إنتهى إليه بعضُ ميراثي؟ لو كان الأمرُ هكذا فبئس الميراثُ وبئس الوارثون!.