بغداد/ تبارك عبد المجيد
أصبحت ظاهرة شراء البحوث الجامعية من المكاتب الإلكترونية أمرًا شائعًا بين الطلاب، خاصةً مع تدني مستوى التعليم في بعض الجامعات، فالعديد من الطلاب يلجؤون لهذه الحلول السريعة بسبب عدم تأهيلهم الكافي لإعداد بحوثهم بأنفسهم. هذه الظاهرة امتدت لتشمل أطروحات الماجستير والدكتوراه، حيث تتراوح أسعار بعض الأبحاث إلى ملايين الدنانير.
السبب وراء انتشار هذه الظاهرة يعود إلى ضعف الرقابة الأكاديمية وسوء إدارة المؤسسات التعليمية، مما يؤدي إلى تساهل بعض الجامعات في منح الشهادات مقابل المال. هذا يؤثر سلبًا على مصداقية التعليم في البلاد ويضعف مستوى البحوث الأكاديمية.
ويقول علي حسين، الذي تخرج العام الماضي، إن اضطراره لشراء بحث التخرج من أحد المكاتب الإلكترونية مقابل 500 ألف دينار لم يكن خيارًا فرديًا، بل أصبح واقعًا شائعًا بين زملائه، إذ لجأ معظمهم إلى الحل نفسه. وخلال حديثه لـ(المدى)، برر حسين فعلهُ بالقول، إن "اغلب الطلبة أصبحوا يعتمدون على شراء البحوث بسبب تدني مستوى التعليم في الجامعات الأهلية، حيث لا يحصل الطلاب على التأهيل الكافي لإعداد بحوثهم بأنفسهم، ما يدفعهم إلى البحث عن حلول سريعة".
وأضاف أن "الظاهرة لم تقتصر على البحوث الجامعية فقط، بل امتدت إلى أطروحات الماجستير والدكتوراه، حيث يصل سعر بعضها إلى 10 ملايين دينار"، موضحاً أن "غياب الرقابة الحقيقية وسهولة الوصول إلى هذه الخدمات ساهما في تفشي هذه الممارسات، ما يهدد جودة البحث العلمي في البلاد".
أسباب تفشي الظاهرة
تُعد السرقة العلمية في البحوث الجامعية واحدة من أخطر التحديات التي تواجه التعليم العالي في العراق، إذ تؤثر هذه الظاهرة بشكل مباشر على جودة البحث العلمي وتقدم المجتمع، وفقًا لما أكده المشرف التربوي حيدر كاظم.
وفي حديثه لـ(المدى)، شدد كاظم على أن السرقة العلمية ليست مجرد خطأ أكاديمي، بل هي انتهاك صارخ للأمانة العلمية، مشيرًا إلى ضرورة التعامل مع هذه الظاهرة بحزم للحد من تداعياتها السلبية على البحث الأكاديمي ومصداقية المؤسسات التعليمية.
وحول العوامل التي أدت إلى تفشي هذه الممارسات، أوضح كاظم أن سهولة الوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت، إلى جانب الضغوط الأكاديمية والاقتصادية التي يواجهها الطلبة، تعد من أبرز الأسباب التي تدفع البعض إلى اللجوء إلى السرقة العلمية.
كما أشار إلى أن ضعف الرقابة الأكاديمية من قبل بعض الأساتذة، بالإضافة إلى التدخلات السياسية في قطاع التعليم العالي، وضعف التوعية الثقافية، قد ساهم بشكل كبير في تفاقم هذه الظاهرة، مما أدى إلى تراجع جودة الأبحاث المنشورة وأثر سلبًا على مستوى الخريجين.
ولمواجهة هذه الأزمة، دعا كاظم الجهات المختصة في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى تعزيز آليات الكشف عن الاستلال العلمي من خلال استخدام برامج حديثة ودقيقة لرصد التشابه في الأبحاث، وفرض عقوبات صارمة على الطلبة والأساتذة الذين يثبت تورطهم في انتهاك النزاهة العلمية.
كما أكد على أهمية توعية الطلبة بمفهوم الأمانة العلمية ودورها في بناء مجتمع معرفي متطور، مشددًا على أن السرقة العلمية لا تضر فقط بالفرد الذي يمارسها، بل تؤثر على سمعة التعليم العالي في البلاد وتُضعف مخرجاته.
وشدد كاظم على أن حماية البحث العلمي مسؤولية جماعية، تتطلب تعاونًا مشتركًا بين الأسرة، والجامعة، والجهات الحكومية، لضمان مستقبل علمي أكثر نزاهة ورصانة، يعزز مكانة العراق في الساحة الأكاديمية العالمية.
وتُعد سرقة البحوث العلمية من أخطر الظواهر التي تؤثر على المجتمعات والاقتصادات، حيث لا تقتصر تداعياتها على المؤسسات الأكاديمية فحسب، بل تمتد إلى مستوى دولي يشمل صراعات بين القوى الكبرى.
في هذا السياق، أشارت سارة مشرق العامري، الأستاذة الجامعية، إلى أن النزاع المستمر بين الولايات المتحدة والصين يُعد مثالًا واضحًا على مدى خطورة هذه الظاهرة. فلطالما اتهمت الولايات المتحدة الصين بسرقة البحوث وبراءات الاختراع، ما ساهم في تعزيز الاقتصاد الصيني، لكنه في الوقت ذاته انعكس سلبًا على الاقتصاد الأمريكي.
واعتبرت العامري في حديث لـ(المدى)، أن هذا الصراع ليس مجرد خلاف اقتصادي، بل هو جزء من معركة عالمية حول الملكية الفكرية، وهو ما أصبح تحديًا متزايدًا في ظل التطور التكنولوجي السريع وانتشار اختراق الأفكار.
ترى العامري أن "سرقة البحوث العلمية ليست مشكلة محلية أو إقليمية فحسب، بل هي قضية عالمية تؤثر على جودة المعرفة والإبداع العلمي. فالباحث الذي يبتكر أفكارًا جديدة قد يشعر بالإحباط إذا أدرك أن عمله عرضة للسرقة دون وجود قوانين صارمة تحمي حقوقه الفكرية.
وشددت على أهمية خلق بيئة تشجع الشباب على الانخراط في البحث العلمي، وحماية أعمالهم من الانتهاك، معتبرة أن هذا الهدف ينبغي أن يكون في صميم سياسات الحكومة العراقية، ممثلة بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والمؤسسات البحثية المختلفة. فالاعتماد المستمر على الحلول المستوردة من الخارج لن يساهم في تحقيق تقدم حقيقي، بل يجب أن يكون للبحوث المحلية دور رئيسي في تطوير البلد من الداخل.
ورغم الدور الأساسي الذي تلعبه وزارة التعليم العالي في تنظيم قطاع التعليم، إلا أن العامري لفتت إلى أن الجانب البحثي يعاني من إهمال واضح. فالدعم المقدم للبحث العلمي لا يتناسب مع الاحتياجات الفعلية، حيث تفتقر الجامعات العراقية إلى ميزانيات مخصصة لدعم الأساتذة والطلاب في إجراء ونشر بحوثهم، على عكس ما هو معمول به في الجامعات العالمية التي توفر تمويلًا خاصًا للبحوث من قبل الحكومات أو الجامعات نفسها. هذا القصور يضع الباحثين أمام تحديات كبيرة، إذ يُجبرون على نشر أبحاثهم في مجلات علمية دولية تتطلب رسومًا مرتفعة لا يستطيع الجميع تحملها، مما يجعل الفرص غير متكافئة بين من يمتلكون القدرة المالية ومن لا يملكونها.
فالباحث الذي يستطيع تحمل تكاليف النشر يمكنه تحقيق الترقية الأكاديمية، بينما يجد الآخرون أنفسهم خارج دائرة التطور العلمي بسبب عوائق مالية، وهو أمر ينبغي إعادة النظر فيه.
وتبين العامري، أن "دعم البحث العلمي يجب ألا يقتصر على التمويل الفردي للباحثين، بل ينبغي توفير ميزانيات مخصصة في الجامعات لتمويل المشاريع البحثية بشكل مستدام. كما يجب تقديم منح مالية تساعد في نشر البحوث، إلى جانب تخصيص موارد لدعم مشاركة الأكاديميين في المؤتمرات العلمية الدولية".
وأشارت إلى أهمية أن تساهم وزارة التعليم العالي في تغطية تكاليف السفر للأساتذة الذين يتم قبولهم في مؤتمرات عالمية، سواء من خلال تخفيض التكاليف أو تقديم دعم كامل، لأن مثل هذه المبادرات من شأنها أن تحفز الباحثين الشباب على تطوير أعمالهم والانخراط بفعالية في المجتمع العلمي الدولي"، لافتة إلى إن "توفير هذه التسهيلات سيعزز مستوى البحث العلمي في العراق، ويعيد للجامعات العراقية دورها الريادي في إنتاج المعرفة وتطوير العلوم".
ضعف الرقابة وسوء الإدارة الأكاديمية
وتشهد الأوساط الأكاديمية في بعض البلدان، ومنها العراق، انتشارًا متزايدًا لظاهرة شراء البحوث العلمية بدلًا من إعدادها من قبل الطلاب أنفسهم، ما يثير تساؤلات حول جودة التعليم العالي ومستقبل البحث الأكاديمي في البلاد.
ويرى الأكاديمي عامر العيثاوي أن المشكلة الحقيقية تكمن في تغير أهداف الدراسات العليا لدى العديد من الطلاب، إذ لم يعد الدافع الأساسي هو تحقيق التقدم العلمي أو إثراء المعرفة، بل أصبح السعي وراء تحسين الوضع المعيشي وزيادة الدخل هو المحرك الرئيسي، خصوصًا بين الموظفين الذين يلجأون إلى الدراسات العليا كوسيلة للترقي الوظيفي.
ويؤكد العيثاوي لـ(المدى)، أن "الكثير من طلاب الماجستير والدكتوراه باتوا ينظرون إلى الشهادات العليا على أنها وسيلة لتعزيز أوضاعهم المالية، لا كأداة لاكتساب المعرفة والتطور الأكاديمي. هذا التوجه يدفع بعضهم إلى البحث عن طرق مختصرة، مثل شراء البحوث الجاهزة من مكاتب متخصصة، وهو ما يؤثر سلبًا على القيمة العلمية للأبحاث الأكاديمية ويضعف مستوى جودتها".
لم يقتصر حديث العيثاوي على سلوك الطلاب فحسب، بل تطرق أيضًا إلى بعض الممارسات داخل المؤسسات الأكاديمية، حيث كشف عن وجود جامعات وكليات تتساهل في منح الشهادات العليا مقابل المال أو الرشاوى، مستغلة الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
وأكد أن هذه الظاهرة تساهم في إضعاف المعايير الأكاديمية وتُفقد الشهادات قيمتها الحقيقية، مما يؤدي إلى تخرج أفراد غير مؤهلين يشغلون لاحقًا مناصب تعليمية ويؤثرون سلبًا على الأجيال القادمة.
وفي هذا الإطار، وصف العيثاوي ما يحدث بأنه "مخطط لتدمير المستوى العلمي في العراق"، مشيرًا إلى أن بغداد لطالما كانت منارة علمية على مر العصور، إلا أن تفشي هذه الظواهر يهدد مستقبل التعليم والبحث الأكاديمي. وأضاف أن خطورة هذه الظاهرة تتضاعف عندما يصبح الأشخاص الحاصلون على شهادات بطرق غير شرعية في مواقع تدريسية، مما يؤدي إلى خلق جيل جديد من الأكاديميين غير المؤهلين، ما يُضعف البيئة العلمية ويحد من الابتكار والتطوير في مختلف المجالات.
كما أشار العيثاوي إلى مشكلة أخرى تتعلق بعدم توافق التخصصات مع احتياجات سوق العمل، موضحًا أن الحصول على شهادات عليا في مجالات لا تتطلبها الوظائف الفعلية يُعد إهدارًا للموارد الأكاديمية. وضرب مثالًا بحالة شخص حاصل على دكتوراه في التربية الرياضية لكنه يعمل كمعلم في مدرسة ابتدائية، وهو أمر غير منطقي من الناحية الأكاديمية، مقارنة بالدول المتقدمة التي تحدد بوضوح متطلبات كل وظيفة وفقًا لتخصصات معينة.
ولمواجهة تفشي سرقة الأبحاث العلمية، دعا العيثاوي إلى ضرورة تطبيق آليات صارمة في الجامعات العراقية للكشف عن حالات الاستلال (السرقة العلمية) وضمان نزاهة البحوث المقدمة. كما شدد على أهمية التعاون بين المؤسسات البحثية المحلية والعالمية لمكافحة هذه الظاهرة، سواء من خلال تبادل البيانات أو تقديم شكاوى ضد الجهات التي تروج لمثل هذه الممارسات.
وأكد العيثاوي على ضرورة تشديد الرقابة على المكاتب التي تقدم خدمات إعداد الأبحاث العلمية مقابل المال، والتي باتت تروج لنشاطها علنًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات في الشوارع.
ودعا إلى اتخاذ إجراءات قانونية صارمة ضد هذه الجهات التي تُلحق ضررًا جسيمًا بمصداقية التعليم العالي في العراق.
ولفت إلى أهمية إعادة النظر في سياسات القبول للدراسات العليا، بحيث يتم التركيز على الحاجة الفعلية للبحث الأكاديمي وليس فقط على الجانب الوظيفي أو المادي، لضمان أن تكون الشهادات الجامعية انعكاسًا حقيقيًا لمستوى علمي رصين وليس مجرد وثائق شكلية تُستخدم لتحقيق مكاسب مالية أو اجتماعية.