TOP

جريدة المدى > عام > الجندي الأمريكي والحرب

الجندي الأمريكي والحرب

نشر في: 10 مارس, 2025: 12:01 ص

منتهى عمران
علق في ذهني سؤال حول تعاطي الجندي الأمريكي مع الحروب التي خاضتها بلادُهُ في مختلف بلدان العالم؛ فقد تابعت أفلاما ومسلسلات أمريكية تتناول شخصيات جنودٍ وضبّاط شاركوا في هذه الحروب، وشهدوا أهوالها، وأصيب بعضهم، في معاركها، إصابات بالغة خسِرَ معها أعضاء من جسده، ومن نجا منهم عانى من فقدانه رفاقه الذين قُتِلوا ببشاعة، فكُِبَ عليه أن يعاني من اضطرابات نفسية أثرت في حياته تأثيراً بالغاً، وأفقدتْهُ قدرتَه على مواصلة الحياة بصورة طبيعيّة. وعلى الرّغم من أنّ الحروب التي خاضتها أمريكا وقعت خارج أراضيها، إلّا أن الإدارات الأمريكيّة الحاكمة كانت، على الدّوام، تختلق الذّرائع المختلفة، لشنّها هذه الحرب، أو تلك، مدّعيةً، بحجج واهية، أنّها تردّ على (محاور الشّرّ) التي تُعاديها، وتستهدف مصالحها الاستراتيجيّة الحيويّة هنا وهناك.
يُقدّم كتاب (حرب الرّقيب ترنر.. مذكّرات جندي أمريكي في العراق) الذي قامت بترجمته القاصّة بثينة النّاصري، وصدر، العام 2023، عن دار غراب في القاهرة، شهادةً عن الفظائع التي رافقت حرب أمريكا على العراق. عنوان الكتاب الأصلي هو (حياتي كبلاد أجنبية)، وقد صدر العام ٢٠١٤. تقول المترجمة إنها استوحت عنوانها للكتاب من عبارة ترنر الشاعر والموسيقي والتي تم وضعها على خلفية الغلاف (أمريكا شاسعة وممتدة من محيط إلى آخر، لكنها ليست فضاءً واسعا ليحتوي الحرب التي عاد بها كل جندي إلى الوطن).
كتبت المترجمة في مقدمتها للكتاب(كنت طوال سنوات ما بعد احتلال العراق في ٢٠٠٣ أتتبع آثار الحرب وأخبارها من خلال ما ينشره الأمريكيون أنفسهم، من عارض الحرب منهم، ومن شارك فيها. وتهمني الفئة الأخيرة. لأنني ضد الحروب لأي سبب، واعتبر السلام أكثر إنسانية وفائدة، وإن كان أصعب تحقيقا.)
وكتبت أيضا (وهكذا فإن الرقيب برايان ترنر لم يخيّبْ ظني. وكانت مذكراته مفاجأة فريدة).
تذكرت عند قراءة المقدمة أنني قرأت كتاب ترنر الشعري الذي قام بترجمته الشاعر العراقي حيدر الكعبي تحت عنوان(هنا أيتها الرصاصة) الصادر عن دار تموز في دمشق عام ٢٠١٣ وهي قصائد كتبها عن الحرب في العراق تحديدا بينما كان كتاب المذكرات مختلطا للعديد من البلدان منها البوسنة وفيتنام والعراق وغيرها. مذكرات له ولأبيه وعمه وجده وكلهم كانوا جنودا مشاركين في الحروب الأمريكية. رغم أن الظاهر وعلى ما يحاول أن يبدو عليه الشاعر ترنر أنه معارض للحرب إلا أنه في الوقت نفسه لا يستطيع أن يبرر التحاقه بالجيش في العديد من الحروب ومنها حرب العراق. وقد قام الكعبي في مقدمته لكتاب (هنا أيتها الرصاصة) بتحليل موقف ترنر والأسباب التي قدمها وقد انقسمت على اقتصادية وعائلية وسيكولوجية ولم يكن الكعبي على قناعة تامة بتلك الأسباب فحتى ترنر نفسه يذكر في ص٧٤ من مذكراته (انضممت إلى المشاة لأنني علمت حتى في ذلك الحين، أن معظم ما قلته للتو هو هراء تام، أو أنه لن يقدم أية إجابة شافية). علما أن الكعبي قد ذكر أيضا أنه التقى شخصيا بترنر في أمسية شعرية مشتركة في أمريكا وتحاورا أيضا قبل الترجمة.
كتب ترنر مذكرات متفرقة غير متسلسلة في أماكن عديدة كان العراق واحداً منها في صفحات عدّة، لكنها متباعدة ومتفرقة بأسلوب مختلف عن المذكرات المتعارف عليها فهي كما ذكرت المترجمة بثينة الناصري(الكلمات لا تقرأها وإنما تراها. كانت لقطات ومشاهد من فيلم هو في نفس الوقت وثائقي وتاريخي وواقعي وفانتازي وتراجيدي وكوميدي، مع ومضات من الماضي السحيق والمستقبل المجهول)ص١٠
ترنر الجندي الأمريكي والشاعر ليس له القدرة الكاملة على إدانة الحروب التي تخوضها بلاده رغم كل محاولاته فهو عندما يصف اقتحام الجنود لبيوت العراقيين المعروفة ينتهي إلى قولهم " كل شيء على ما يرام أيها الصغار، كل شيء على ما يرام " بعد وصف شاعري لتلك اللحظات. بينما يصف في صفحات أخرى حال العراقيين بأسلوب خبري لا يثير التعاطف بل العكس ففي ص١٢٧ يذكر (هناك صبي عراقي هزيل بسن أربع عشرة سنة، وهو يعيش في القاعدة كما يبدو جليا بسبب انجليزيته الرهيبة وبسبب أنه أسد في إهاب طفل. يصرخ في العمال العراقيين وهم في منتصف العمر.. ... "أنتم يا أكياس الزبالة، اسرعوا، عليكم اللعنة. نفذوا أوامري أو أركل مؤخراتكم الكسولة من هنا وآتي بأكياس غيركم لخدمتي"). بينما في صفحة أخرى يصف أطفال الموصل وهم يبحثون عن السكراب، وفي أخرى وهم يشربون قناني رماها الجنود بعد استخدامها للتبول.
في ص١٥٣ يكتب عن وصية أبيه له وهو يتهيأ للرحيل إلى العراق(احمل معك كل الذخيرة التي تجدها. ستكون سعيدا بذلك حين يحين الوقت).
يتحدث ترنر عن ارثه من جده مبجّلاً قتل به يابانيا على أرضه.
هناك العديد من المحاولات لكي يثبت ترنر أنهم كانوا جنودا طيبين، فهو يحمل شعورا بالذنب يرافقه في كل لحظة، إنه الصراع بين الجندي والشاعر كما وصفه الكعبي (فمن غير المشكوك فيه أن براين الشاعر كان سيكون له شأن آخر لو لم يكن جنديا في العراق).
ويؤكد ترنر ذلك في ص١٩٦ (لم أتخيل أن أشارك تلك الكلمات هناك، بصوت عال، في العراق. ولكني وأنا أكتب هذه الكلمات يرن في ذاكرتي "رادار كاشف الهراء لدى الكاتب" الذي تحدث عنه همنجواي.)
وعندما تعرض مقرهم للقصف المدفعي العراقي كتب في ص٢٠٧ (حين سرنا وتفقدنا قرية حمام العليل... صرخت في المنازل التي مررنا بها، لعنت الستائر التي يغطون بها نوافذهم، شتمت أبوابهم المغلقة. وصرخت في أشجار نخيلهم الثابتة، وشوارعهم الفارغة، وثبات كل ما رأيته أمامي.).
لقد عمل ترنر على أن لا يتخلى عن شاعريته وموقفه المناهض للحرب من خلال دسه ذلك بين السطور كي لا يخسر في نفس الوقت وطنيته تجاه بلاده لا أعلم إن كان ذلك هو نوع من التقية؟
(كيف يمكن لأي امرئ أن يغادر حربا، ليس مهما أي حرب، ويستطيع بعد ذلك أن يواصل بقية حياته؟)ص١١٤ إذن هل يبدو الأمر هنا شخصيا لا أكثر؟.
ما يثير الإعجاب أن ترنر كان على دراية تامة بأحوال العراقيين وثقافتهم رغم أنه بقي فيه سنة واحدة فقط عام ٢٠٠٤ كما ذكر ذلك وهذا ما يتبين في كتابيه وبشكل واضح.
في الختام لا يمكن لي إلا أن أثني على المترجمين الناصري والكعبي على جهودهما في الترجمة البارعة لهذين الكتابين لنكون على اطلاع لما يقوله الأمريكي ومايشعر به إزاء الحرب لنكون في الصورة الواضحة بعيدا عن السياسة الكاذبة في كل أحوالها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"سيرك" للشاعرة نور خليفة: دينامية اللغة وتمثلات العطب الوجودي

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

هيباشيا

انتقائية باختين والثقافة الشعبية

مقالات ذات صلة

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)
عام

فوز الصيني جياكونجياكون بجائزة نوبل للعمارة (بريتسكر)

نجاح الجبيلي تعد جائزة بريتسكر للهندسة المعمارية إحدى أرقى الجوائز العالمية وبمثابة نوبل للعمارة. وهي جائزة عالمية تمنح سنوياً تقديراً "لمعماري أو مجموعة من المعماريين الأحياء الذين تُظهر أعمالهم المُنجزة مزيجاً من الموهبة والرؤية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram