بغداد/ تبارك عبد المجيد
يعيش العراق مفارقة صارخة بين ثرواته الهائلة وواقعٍ اقتصادي يزداد سوءاً، حيث ترتفع نسب الفقر والبطالة، لاسيما في المحافظات الجنوبية. تقلبات سعر الصرف، وغياب التخطيط، والفساد، عوامل عمّقت الأزمة، فيما تحاول الحكومة الحدّ من آثارها عبر برامج دعم اجتماعي واستثمارات محدودة. غير أن استمرار النهج القائم دون إصلاحات جذرية ينذر بمزيد من التدهور في الوضع المعيشي.
وتتزايد التحذيرات من أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه قد يؤدي إلى قفزات غير مسبوقة في معدلات الفقر، وهو ما تؤكده الإحصاءات الرسمية.
فمحافظات الجنوب تتصدر قائمة الأكثر فقراً، حيث سجلت محافظة المثنى النسبة الأعلى بـ52%، تليها القادسية وميسان وذي قار بنسبة تقارب 48%. أما العاصمة بغداد، فسجلت نسبة فقر بلغت 13%، فيما وصلت إلى 34.5% في نينوى، و18% في محافظات الوسط.
نظرة "حكومية" متفائلة!
مظهر محمد صالح، المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، ذكر في حديث له مع (المدى)، أن "الجانب الاجتماعي في الموازنة العراقية يمثل ركيزة أساسية في جهود الدولة لمكافحة الفقر"، مبيناً أن "يزيد على مليونين 200 ألف أسرة فقيرة تتلقى دعماً اجتماعياً متنوعاً، يشمل السلات الغذائية والخدمات التعليمية المجانية، مما يشكل "جدار صد" فعّالاً في وجه الفقر، ويمنع تفاقمه في المجتمع".
وأوضح صالح أن "هذه البرامج الاجتماعية تسهم بشكل ملموس في تحسين الظروف المعيشية للشرائح الأكثر هشاشة"، مؤكداً أن الفقر لن يشهد تصاعداً طالما استمرت الحكومة في تبني استراتيجيات دعم فعالة، سواء من خلال الرعاية الاجتماعية أو عبر توفير فرص العمل وتحفيز الاقتصاد المحلي.
وأشار إلى أن "معدلات البطالة شهدت تراجعاً ملحوظاً، حيث انخفضت من 17 إلى 14% خلال الفترة الأخيرة، وهو ما يعكس تحسناً في السوق العراقي نتيجة تنشيط المشاريع المتوقفة وعودة حركة الإعمار، مضيفاً أن خلق فرص العمل مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستثمار، إذ يُعد النشاط الاستثماري أحد المحركات الرئيسة لتقليص نسب الفقر.
وتابع قائلاً إن الأسرة العراقية، التي تتكون في الغالب من أربعة أفراد، تعني أن شريحة سكانية كبيرة لا تزال تقع تحت خط الفقر لكنها مشمولة بالرعاية الاجتماعية، ما يسهم في تخفيف الأعباء عنها ومنحها قدراً من الاستقرار الاقتصادي.
وفيما يتعلق بالآفاق الاقتصادية لعام 2025، خاصة في ظل الحديث عن احتمال تراجع أسعار النفط، طمأن صالح بأن تلك المخاوف قد تكون مبالغاً فيها.
وبيّن أن تكاليف إنتاج النفط الصخري تتراوح بين 50 إلى 60 دولاراً للبرميل، مما يجعل من غير المرجح أن تنخفض الأسعار إلى مستويات أدنى من 70 إلى 75 دولاراً، وهي الحدود التي تضمن التوازن المالي للدول المنتجة، وعلى رأسها العراق، الذي يعتمد اقتصاده بشكل أساسي على الإيرادات النفطية.
وشدد على أن التحدي الأبرز أمام الحكومة في المرحلة المقبلة يتمثل في الحفاظ على الانضباط المالي وضبط النفقات العامة، بالتوازي مع تعزيز الإنفاق الاستثماري، باعتباره المحرك الأساس للنمو الاقتصادي المستدام. كما دعا إلى تبني خطة تدريجية تهدف إلى تقليص العجز في الموازنة العامة والحد من الاعتماد المفرط على الديون.
وتابع صالح حديثه بالتأكيد على أهمية استقرار أسواق النفط العالمية، لافتاً إلى أن الدول المنتجة – بما فيها روسيا والبرازيل، التي انضمت مؤخراً إلى مجموعة "أوبك" – تتجه نحو تنسيق الجهود للحفاظ على أسعار النفط عند مستويات تضمن مصالحها الاقتصادية، وتُجنب العالم تقلبات قد تُلحق أضراراً جسيمة بالاقتصادات المعتمدة على صادرات الطاقة.
ويعتمد العراق، بصفته ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة "أوبك"، بشكل شبه كامل على العائدات النفطية لتمويل اقتصاده. إذ يشكل قطاع الهيدروكربونات النسبة الأكبر من صادرات البلاد، ويُسهم بما يقارب 90% من إيرادات الموازنة العامة. هذا الاعتماد المفرط على مورد واحد يجعل الاقتصاد العراقي هشاً ومعرّضاً بشدة لتقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية، الأمر الذي يضع الاستقرار المالي والاقتصادي للبلاد على المحك مع كل انخفاض حاد في أسعار الخام.
الأسباب!
من جانبه، يقول الباحث بالشأن الاقتصادي همام الشماع، في حديث لـ(المدى)، إن معدلات الفقر في العراق آخذة في الارتفاع بشكل مستمر، حيث يزداد عدد الفقراء يوماً بعد آخر نتيجة عدة عوامل متداخلة. وبيّن الشماع أن من أبرز هذه الأسباب تراجع قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار، والذي أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل متواصل، ما أثقل كاهل المواطن، خاصة في ظل انكماش فرص العمل وضعف مستويات التوظيف.
وأضاف الشماع، أن "الفئات التي كانت تُعد في السابق ضمن الطبقة الوسطى، وعلى رأسها الموظفون أصحاب الرواتب الثابتة التي لا تتجاوز المليون دينار شهرياً، باتوا اليوم يُصنّفون ضمن شريحة الفقراء، حيث لم تعد رواتبهم كافية لتلبية احتياجاتهم الأساسية، مقارنة بما كان المواطن العراقي معتاداً عليه في العقود الماضية، خصوصاً في السبعينيات والثمانينيات حين كانت القوة الشرائية مرتفعة والظروف المعيشية أكثر استقراراً".
وحول سبل معالجة هذه الأزمات الاقتصادية المتفاقمة، شدد الشماع على أن البداية الحقيقية لأي إصلاح اقتصادي جاد يجب أن تنطلق من مكافحة الفساد، الذي يلتهم نحو ثلث ثروات البلاد.
وأوضح أن "الفساد يستهلك ما يقرب من 50 في المئة من الموارد المالية المتحصلة بالعملة الأجنبية، وهو ما يُشكل عائقاً كبيراً أمام الاستثمارات، حيث يعطّل ما يقرب من 60 في المئة من الفرص الاستثمارية المتاحة".
وأكد الشماع أن "معالجة الفقر في العراق لا يمكن أن تتم دون إصلاح بنيوي حقيقي، يستهدف استرداد الأموال المهدورة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروات، وخلق بيئة اقتصادية مستقرة تتيح فرص عمل حقيقية، تُمكّن المواطن من العيش بكرامة، بعيداً عن دوائر الحاجة والعوز".
من جانبه، يقول المحلل السياسي مناف الموسوي أن "النظام القائم على المحاصصة السياسية والاستئثار الحزبي بالسلطة كان له دور جوهري في إضعاف مؤسسات الدولة وتعطيل مسار التنمية في العراق"، مؤكداً أن هذا "النموذج في الحكم، الذي يقوم على تقاسم الثروات والمناصب بين الأحزاب والزعامات، أدى إلى سوء إدارة البلاد، وأعاق تنفيذ المشاريع الاستراتيجية التي كان من شأنها أن تضع العراق على طريق النمو المستدام".
وفي حديث لـ(المدى)، يشير الموسوي إلى أن "تداعيات هذه السياسات لم تقتصر على تعطيل المؤسسات، بل امتدت لتطال القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة، والتي شهدت تراجعاً حاداً نتيجة قلة الدعم والإدارة غير الكفوءة، ما ساهم في تهميش دور القطاع الخاص، ودفع المواطن للاتكال شبه الكامل على الوظائف الحكومية". وبيّن أن هذا الاعتماد المفرط أحدث خللاً كبيراً في الموازنة العامة، وزاد من الضغط على الدولة دون مقابل تنموي حقيقي.
واعتبر الموسوي أن الفساد، المدعوم بشكل مباشر أو غير مباشر من قِبل بعض القوى السياسية، يشكل العائق الأبرز أمام أي نهوض اقتصادي.
وأوضح أن توزيع الوزارات والمؤسسات والمشاريع على أسس حزبية ومحاصصاتية أفقد الحكومة قدرتها على الأداء الفاعل، وأضعف هيبة الدولة ومؤسساتها الرقابية والتنفيذية.
وأضاف أن نتيجة هذا المشهد المختل، ارتفعت نسب الفقر والبطالة في البلاد إلى مستويات مقلقة، وهو واقع لا يزال مستمراً في ظل غياب إصلاحات حقيقية تعيد الاعتبار للمصلحة الوطنية فوق المصالح الحزبية والفئوية.
ويشدد على أن الخروج من هذا النفق يتطلب إرادة سياسية صادقة تتجاوز حسابات السلطة، وتعمل على بناء دولة مؤسسات قائمة على الكفاءة والنزاهة، لا على المحاصصة والولاءات.
المحاصصة السياسية تُغرق ثروات العراق.. النفط يرفد خزينة الدولة والمواطن ضحية الفقر!

نشر في: 10 مارس, 2025: 12:26 ص