عبد العزيز لازماستفاقت منطقتنا على حراك جماهيري لايمكن اعتباره عفويا بالمطلق كونه جاء بفعل تراكمات افرزها الحيف السياسي والاجتماعي والاقتصادي من قبل الانظمة الحاكمة والتي استنفدت ضرورات وجودها في هذه المرحلة التاريخية. لذلك كان العبء الذي أثقل كاهل الجماهير المعدمة قد بلغ حدا لا تستطيع تلك الجماهير التي امعنت السلطات الحاكمة في البلدان العربية في الاستهانة بردود افعالها جراء ظلمها الإجرامي أن تتحمله او تتعايش معه .
لايمكن ارتهان طبيعة هذه التحركات الشعبية بخبر او حزمة اخبار بثها موقع ويكليكس الالكتروني ليؤدي إلى اشتعالها كما يعتقد بعض الاعلاميين ، لأن ذلك ينطوي على تبسيط للاسباب الحقيقية وراء الثوارت الشعبية ، فهذه الاسباب كامنة في طبيعة الظلم الذي تمارسه قوى متخلفة تمتلك السلطة وتمتلك الاجهزة القمعية المدربة على حمايتها من انتفاضات شعبية يتوقعونها هم قبل غيرهم. لكن القمع الذي رصدة ويكليكس ورصدته الشعوب قبله كان قائما بأشكال متصاعدة كسبب مركب للكفاح من اجل الحياة الحرة الكريمة ، بل ومن اجل البقاء على قيد الحياة. وقد تجسد الطابع المركب للأسباب بالوسائل الجديدة للاحتجاج والثورة وهي حرق الجسد في الساحات المفتوحة.rnومعظم أولئك الذين أقدموا على حرق اجسادهم كانوا وما زالوا من الشباب العاطلين عن العمل. محمد بو عزيزة ( 26 عاماً) شاب تونسي خريج جامعة تونس وأحد المنخرطين في جيش العاطلين ، اراد ان يخفف عبء البطالة المفروضة عليه رغم تخرجة من الجامعة ، فلجا الى بيع الخضراوات والفاكهة في عربة .رغم ذلك طاردته الشرطة لانه لم يحصل على تصريح بذلك. وعندما ألقي القبض عليه (متلبسا) في جريمة بيع الخضراوات(وليس المخدرات) صفعه الشرطي امام الناس. تصاعدت مشاعر النقمة في نفس بو عزيزة بعد ان تجاوزت الامور كل منطق ، وامام الناس وامام عجزه في ان يفعل أي شيء لحفظ كرامته احرق نفسه ليقول للتاريخ ان استغلال الانسان وظلمه لأخيه الانسان قد بلغ مرحلة العبث.نحن لسنا امام مشهد من روايات فرانز كافكا الصادمة ولسنا امام عرض مسرحي لاحدى مسرحيات يوجين يونسكو العدمية ولم نقدم وصفا لمشهد تقديم القرابين تقوم به قبيلة منقرضة من قبائل افريقيا . بل ببساطة ان ما حصل كان في مدينة عربية متحضرة هي تونس . وتبع الحدث التراجيدي التونسي احداث مماثلة اخرى في نفس الساحة ثم انتقلت الى مدينة متحضرة اخرى في المنطقة هي الاسكندرية بعد شهر تقريبا من الحدث الاول . بلغ الاحساس بالاضطهاد والظلم بالنسبة للشاب المصري السكندري العاطل عن العمل احمد هاشم السيد حدا متعاظما فقرر أن يلحق بزميله التونسي موسعا نطاق الاحتجاج ضد اوضاع ضاغطة ومهددة لحياة البشر الكريمة . احرق نفسه واحرق آخرون انفسهم والسبب واضح ومكرر وهو انعدام العدالة الاجتماعية . اسس هؤلاء الفتية ومعهم الجموع الهادرة التي خرجت وراءهم ثقافة جديدة ٍهي ثقافة الموت حرقا ، ورغم اننا قد لانتفق مع هؤلاء الشباب الضحايا في اسلوب التخلي عن الحياة تعبيرا عن الاحتجاج ونحض على ممارسة الكفاح بأساليب أخرى إلا أن هؤلاء الشباب اضطروا إلى ذلك بقصد استخدام مهاميز اضطرارية لتحريك العالم وحض اوساطه المؤثرة على التفكير بما يجري في حياة المجتمعات المغلوبة على أمرها بعد ان عجز المهمشون والمسحوقون فيها ووسائل الاعلام المتضامنة معهم عن إسماع استغاثاتهم الى من يعير اهتمامه بالنتائج الخطيرة للسكوت عن الظلم .في العراق يحدثنا التاريخ الكفاحي للشعب العراقي عن الفلاح الثائر (عذافة) من سوق الشيوخ الذي ضحى بنفسه حرقا ضمن ما عرف بانتفاضة سوق الشيوخ عام 1936، ولكن من أجل إنقاذ جماعته الثوار الذين كانوا محاصرين في مركز الشرطة الذي سبق ان انتزعوه من شرطة النظام الملكي تعبيرا عن ثورتهم من أجل حقوقهم ، فقرر الفلاح الثائر عذافة ان يلف على جسمه حزمة من السعف المبلل بالنفط الابيض ويشعل النار ثم يخرج راكضا من القلعة المحاصرة لإلهاء الشرطة وإتاحة الفرصة لزملائه للهرب والخلاص من قبضتهم ، وهكذا كان. أحفاد عذافة ما زالو في الشارع العراقي ولكن في ظروف جديدة اتسمت بكون مصائبها تفاقمت وهؤلاء ينظرون ويسمعون إلى ما يجري في البلدان المجاورة ويعلمون أيضا إن أسباب أشقائهم في مصر وتونس والأردن في الثورة من أجل التغيير هي اقل حدة من أسبابهم رغم إن بعضها هي ذات الأسباب ، وهم يعلمون أن من قاد تلك المبادرات الشعبية هم من فئات المثقفين العاطلين والعمال والكسبة بل حتى أصحاب مشاكل عائلية بسبب الفقر وضيق مجال العيش وفئات مهمشة من المواطنين استجابت رغم علمها بجبروت السلطة القمعية التي اضطرت الى التراجع في تونس والى محاولات التكيف والالتفاف كما يجري في مصر . وهناك من المثقفين من لم يحسم امره في مصر لاسباب شتى رغم علمهم بعدالة التظاهرات التي انخرطت بها مئات الالوف من اصحاب قضية بات العالم نفسه يرى عدالتها وان وفق منظورات مختلفة . وهذا مما يثير استغرابنا في وقت تتزايد مناشدات العالم على ضرورة تسليم السلطة الى ممثلي الشعب . وقد شجع ذلك رأس النظام المصري على القول بان الآخرين لا يفهمون ثقافة الشعب المصري منصّبا نفسه وصيا هذه المرة على ثقافة الشعب المصري ، وكأن
أصوات التغيير في المنطقة تسبق التوقعات وتبثّ صداها نحو الشارع العراقي
نشر في: 16 فبراير, 2011: 05:04 م