بغداد/ تبارك عبد المجيد
يستعد البنك المركزي العراقي لإطلاق عملة رقمية وطنية في إطار تحول تدريجي نحو نظام مالي رقمي، يهدف إلى تقليل استخدام النقد الورقي وتعزيز الشفافية والشمول المالي. المبادرة تستند إلى تقنيات الدفع الحديثة وتسعى لخفض كلفة التعاملات، ومكافحة غسيل الأموال.
ورغم الطموح، يشكك مختصون بإمكانية نجاح المشروع بسبب التحديات المرتبطة بضعف الثقة بالجهاز المصرفي، وغياب البنية التحتية الرقمية الكافية. في المقابل، يؤكد البنك المركزي رفضه التعامل بالعملات المشفرة ويعتبرها غير قانونية، محذرًا من نشاط شركات تداول وهمية داخل السوق المحلية. كشف محافظ البنك المركزي العراقي، علي العلاق، أن النظام المالي والمصرفي في البلاد مقبل على تحولات جوهرية، أبرزها التراجع التدريجي في استخدام العملات الورقية لصالح المدفوعات الرقمية. وأكد العلاق خلال كلمته في مؤتمر ومعرض المالية والخدمات المصرفية التاسع، أن البنك المركزي يعمل على إنشاء عملة رقمية خاصة به، ستُطرح تدريجيًا لتكون بديلاً للعملة الورقية، على غرار تجارب عدد من البنوك المركزية العالمية.
وكان البنك المركزي العراقي، قد أعلن في 16 كانون الأول الماضي، عن عدم منح أية تراخيص لشركات تداول الأسهم والمعادن والعملات المشفرة، محذرًا من نشاط شركات وهمية تدّعي حصولها على تراخيص رسمية. رغم الانتشار العالمي المتزايد للعملات المشفرة، إلا أن العراق لا يبدو قريبًا من دخول هذا العالم الرقمي عالي المخاطرة. فوفقًا لمختصين، لا تمثل هذه الأصول الرقمية إضافة حقيقية للاقتصاد العراقي، الذي يقوم في الأساس على صادرات النفط والتعامل بالدولار في الأسواق العالمية.
ويقول المختص بالشأن المالي مصطفى حنتوش في حديث (المدى)، إن "العراق لا يمتلك بيئة تشريعية أو اقتصادية قادرة على استيعاب هذه العملات، بل قد تتحول إلى أداة للمضاربة وغسل الأموال في ظل غياب الرقابة والتنظيم".
ويشير إلى أن "التعامل بها يجري بشكل محدود وغير رسمي، عبر منصات خارجية ومكاتب في دول مجاورة، ما يعرض المستثمرين لمخاطر الخسارة والاحتيال".
كما أن العملات المشفرة، وفق حنتوش، لا تستند إلى احتياطي حقيقي أو ضمانات مصرفية، مما يجعلها شديدة التقلب وغير موثوقة في الأسواق الهشّة كالسوق العراقية. مبادرة إطلاق "الدينار الرقمي"، كما يرى الباحث بالشأن الاقتصادي زياد الهاشمي، تأتي كمحاولة للتخلص من المشكلات المزمنة التي تعاني منها المنظومة النقدية، لكن نجاحها لا يزال موضع شك.
في حديث مع (المدى)، يوضح الهاشمي أن "هناك فارقًا جوهريًا بين العملة الرقمية والعملات المشفرة. فالعملات الرقمية تُصدر وتُنظم من قبل البنوك المركزية، مثل الدولار الرقمي أو الدرهم الرقمي، وتُدار ضمن إطار رقابي رسمي، بينما العملات المشفرة، مثل "بيتكوين"، تعمل بنظام لا مركزي لا يخضع لأي سلطة تنظيمية، وتتسم بتقلب كبير في قيمتها بسبب اعتمادها على العرض والطلب".
ويُذكر أن عملة "بيتكوين" كانت أول عملة رقمية مشفّرة ظهرت في عام 2009، كرد فعل على الأزمة المالية العالمية. وقد صُممت لتعمل خارج الأطر الرقابية للبنوك المركزية، مما جعلها أداة جذابة للبعض، خاصة في الأوساط الرقمية والشبكات الإجرامية، نظرًا لما توفره من خصوصية وسرعة في التحويلات المالية بعيدًا عن القيود الحكومية، ويعتبر التعامل بـ "بيتكوين"، مخالفة قانونية، ويُعرّض مرتكبيه لأحكام قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم 39 لسنة 2015. وكان البنك قد أصدر بيانًا رسميًا خلال أزمة الدولار الأخيرة، شدد فيه على أن التعامل بالعملات المشفّرة ممنوع، وغير معترف به داخل البلاد. وفيما يخص الدينار الرقمي المرتقب، يشير إلى أن "البنك المركزي العراقي سيكون الجهة المسؤولة عن إصداره وتداوله، ما يتيح له السيطرة والرقابة على العمليات المالية، ويسهم في الحد من الجرائم المالية وغسيل الأموال. وبخلاف العملات المشفرة، فإن هذه العملة ستكون مدعومة بالكامل من البنك المركزي، ما يمنحها قدرًا من الاستقرار ويجعلها شبيهة بالعملة الورقية من حيث القيمة السيادية، مع اختلاف أن تداولها سيكون إلكترونيًا فقط من خلال الحسابات المصرفية والمحافظ الرقمية. الهاشمي يرى، أن "الهدف الرئيس من هذه الخطوة هو تقليل الاعتماد على الدينار الورقي المكتنز خارج النظام المصرفي، ودفع عجلة الشمول المالي، فضلًا عن محاولة الحد من الاستخدام الواسع للدولار في التعاملات المحلية، عبر تعزيز الثقة باستخدام الدينار الرقمي بديلًا رسميًا في العمليات اليومية".
ويضيف، أن "نجاح هذا المشروع مرهون بتوفير بيئة ملائمة وتطبيق محكم، وفي حال تحقق ذلك، يمكن للدينار الرقمي أن يسهم فعليًا في سحب الكتلة النقدية الراكدة، وتنشيط الحركة المصرفية، وتحفيز الائتمان، وهو ما قد ينعكس إيجابيًا على الأداء الاقتصادي العام".
إلا أن الهاشمي لا يخفي تشاؤمه، إذ يؤكد أن البنك المركزي العراقي يفتقر حاليًا إلى المقومات الأساسية التي تضمن نجاح هذه المبادرة، بسبب الخلل الكبير في سياساته النقدية، وضعف ثقة المواطنين بالجهاز المصرفي، ناهيك عن التدخلات السياسية المتكررة في قراراته. ويرى أن كل هذه المعوقات قد تجعل من الدينار الرقمي مشروعًا هشًا، يعاني من المشكلات ذاتها التي يواجهها الدينار الورقي.
ويخلص إلى القول إن "الطموح وحده لا يكفي، فبدون إصلاح حقيقي للسياسات النقدية، وتعزيز الثقة الشعبية بالمصارف، وإبعاد السياسة عن الاقتصاد، فإن فرص نجاح الدينار الرقمي تبقى محدودة للغاية". الى ذلك، يرى مظهر محمد صالح، المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء، أن "البنوك المركزية حول العالم، بما في ذلك البنك المركزي العراقي، لا تزال في مرحلة الإعداد التدريجي للانتقال إلى عالم المدفوعات الرقمية، بوصفه بديلًا عصريًا للعملات الورقية". هذا التحوّل، كما يوضح، لا يغيّر من جوهر النقود ووظائفها الأساسية، بل يسعى فقط إلى تحسين كفاءة التعامل بها وتقليل التكاليف المرتبطة بها، إضافة إلى تعزيز أدوات الرقابة المالية والحد من الجرائم المالية وغسيل الأموال.
ويؤكد صالح لـ(المدى)، أن "هذا التحوّل الرقمي في النظام النقدي لا يعني فقدان النقود لوظيفتها كمخزن للقيمة، أو كوسيلة للدفع والاستلام، أو كأداة لوحدة الحساب وقياس الحقوق، بل سيتم الحفاظ على هذه الوظائف بالكامل، ولكن في بيئة أكثر شفافية وحوكمة وامتثال، ما يعزز قدرة السلطة النقدية على إدارة الاستقرار النقدي باستخدام أدوات السياسة النقدية ذاتها". ويوضح صالح أن "النقود الرقمية قادرة على توسيع نطاق الخدمات المصرفية لتشمل الشرائح الأكثر فقرًا وهشاشة في المجتمع، من خلال تسهيل فتح الحسابات المصرفية الرقمية. وستكون النقود الرقمية متاحة لجميع المواطنين، ابتداءً من أصغر وحدة نقدية حتى أكبرها، مما يسمح بتسوية المعاملات بشكل فوري دون تأخير أو إهدار للحقوق أو الوقت".
ويشير إلى، أن "توفير السيولة الرقمية بشكل واسع داخل الجهاز المصرفي، وبأقل قدر من مخاطر السيولة، سيمكن الفئات ذات الدخل المحدود من الحصول على قروض رقمية فورية وميسّرة، وبكُلفة أقل، نظرًا لأن الأموال ستبقى داخل النظام المصرفي، ولن تتطلب احتياطات كبيرة أو تحوطات مالية. وبهذا، سيتم تفعيل مضاعف الائتمان الرقمي بشكل أمثل، مما يعزز التمويل ويحفّز النشاط الاقتصادي، دون المساس بالاستقرار الاقتصادي أو التسبب بتضخم نقدي، طالما بقيت أدوات السياسة النقدية فعالة".
ويؤكد المستشار الاقتصادي، أن "تنفيذ هذا المشروع يتطلب استثمارات دقيقة وواسعة في تكنولوجيا المعلومات، مثل الهواتف الذكية وشبكات التواصل، مع ضرورة توافر بنية تحتية رقمية متقدمة، أبرزها شبكة إنترنت موثوقة، باعتبارها العمود الفقري لنجاح المدفوعات الرقمية. كما يشدّد على أهمية وجود بنية قانونية متينة تحمي حقوق المستخدمين والمتعاملين، وتضمن أمان الشبكات من الاختراقات، ضمن إطار شامل للأمن السيبراني، يتماشى مع التطور السريع في الخدمات الرقمية على مستوى العالم".