أحمد حسن
ما جرى ويجري في الساحل السوري، وخاصة في جبلة، يعيد إلى الأذهان أبشع الفصول الدموية التي عاشتها المنطقة، من مذابح الإيزيديين في العراق إلى المجازر التي ارتكبتها الجماعات الجهادية في مناطق النزاع الأخرى. أن يُجبر الإنسان على العواء ككلب قبل إعدامه، أن يُذبح ويُحرق وتُداس جثته، أن تُغتصب النساء وتُنهب الأموال، ثم يُحتفى بهذه الفظائع بشعارات دينية وهتافات مثل "الموت للعلويين"، ليس مجرد حادثة عابرة، بل علامة فارقة على انهيار الضمير الإنساني.
هذا المشهد الدموي ليس جديدًا على الحركات الجهادية، فجذورها ممتدة في التاريخ السياسي الإسلامي، منذ العصر الأموي الذي يتفاخر به أنصار هيئة تحرير الشام وسائر التنظيمات الجهادية. هؤلاء الذين يبررون القتل بالهوية، ويعيدون إنتاج التاريخ بأكثر صوره وحشية، لم يأتوا من فراغ، بل من بيئة صنعتها سياسات التطييف والإقصاء.
لكن كيف يتحول الضحية إلى جلاد؟ وكيف يسمح الضمير الوطني لشعب كان يعاني من الاستبداد أن يمارس ذات الجرائم، بل وأبشع منها؟ إذا كانت الواجهات الاجتماعية، مثل العشائر والنخب ورجال الدين، قد رفضت الانحياز إلى نظام الأسد ضد الضحية، فكيف تصمت اليوم أمام استباحة القرى والمدن بحجة الانتقام؟ ولماذا يقبل السوريون بأن تتحكم بهم ميليشيات جهادية شيشانية وطاجيكية وأوزبكية، في حين كانوا يرفضون بصوت عالٍ تدخل المقاتلين الأجانب الذين استجلبهم النظام؟.
إن معادلة "كما تفعل يُفعل بك" ليست عدالة، بل دائرة جهنمية من الانتقام والتوحش. إن رد الجريمة بجريمة أبشع من الجريمة بعينها، خاصة حين يكون الضحايا مدنيين لا ذنب لهم سوى أنهم وُلدوا في بيئة مختلفة. إنّ قتل العلوي والمسيحي والشيعي والكردي والدرزي بوصفه "خصمًا طبيعيًا" ليس سوى مقدمة لمحرقة طائفية لن ينجو منها أحد.
نحن أمام ثلاثية قاتلة:
أولًا، هناك مجرمون فاعلون يرتكبون الفظائع باسم الدين والثورة والعدالة.
ثانيًا، هناك مجرمون مؤيدون يبررون هذه الجرائم، سواء بالصمت أو بالتحريض.
ثالثًا، هناك إعلام متواطئ يشرعن هذه الفظائع عبر تصوير الضحايا كفلول لنظام الأسد أو باعتبارهم "خارجين عن القانون" لمجرد انتمائهم الطائفي.
حين يُستضاف إعلاميون جهاديون ليتحدثوا بفخر عن هجماتهم على المدنيين، وحين يتم تبرير ذبح العلويين بفتاوى وتحليلات سياسية سطحية، فإننا لسنا أمام مشهد عرضي، بل أمام آلة متكاملة لصناعة الكراهية والتطهير العرقي.
علينا أن ندرك أن ما يحدث الآن في سوريا ليس تحولًا ديمقراطيًا ناتجًا عن ربيع عربي يحتاج إلى وقت ليؤتي ثماره، بل هو صيف طائفي حارق. فالعلويون والمسيحيون والدروز والأكراد والشيعة منتشرون في المنطقة، وما يجري في سوريا ستكون له انعكاسات، خاصة على دول الخليج وتركيا. إن لم يكن هناك ردع حقيقي للإرهاب ومعاداة العلوية والأقليات في سوريا، فإن نيران الكراهية ستتجاوز حدودها لتطال مناطق أوسع.
الغرب يدرك هذا تمامًا، لكنه يتعامل مع سوريا كأرض لتجميع الجهاديين، كما فعل مع معسكرات الهول وغيرها، حيث تتكدس الآلاف من المقاتلين الأجانب الذين جاؤوا بعد انهيار داعش في الموصل عام 2014. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستقف النيران عند حدود سوريا، أم أنها ستمتد لتحرق الجميع؟.
إن ما يجري اليوم في سوريا، حيث تصرخ الجوامع علنًا بوجوب إبادة العلويين، لا يختلف عما كانت تفعله الدولة العثمانية بالأرمن والإيزيديين. فما الفرق بين من كان يذبح الأرمن قبل قرن، ومن يمارس الوحشية ذاتها اليوم ضد العلويين؟ هل عاد عهد الفرمانات الجهادية التي تحلل الدماء وتبيد الأقليات باسم الدين؟.
إذا كان هذا هو الواقع، فكيف يُمكن للمكونات الأخرى، من المسيحيين والكرد والإيزيديين، أن يشعروا بالأمان داخل مشروع الإدارة السورية الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام، وهو المشروع الذي لم يُنتج إلا المزيد من المذابح؟ كيف يُطلب من الأقليات أن تثق في بيئة تحتفي بالمجازر، وتُشرعن القتل، وترى في الإبادة تحقيقًا لمشيئة إلهية؟
لسنا أمام فصائل معزولة أو جماعات متطرفة هامشية غير منضبطة، بل أمام خطاب يلقى رعاية سياسية وإعلامية، وتبريرًا ممنهجًا في المنابر والمؤتمرات. لم تعد الإبادة الجماعية جريمة في نظر البعض، بل مشروعًا سياسيًا يُغذى بالفتاوى والخطابات، ويُسوَّق على أنه حقٌ إلهي.
كيف يُمكن بناء مستقبل موحد في سوريا والمنطقة، بينما لا تزال فئات كاملة من شعبها تُعتبر "أعداءً بالفطرة"؟ كيف يمكن تحقيق الاستقرار، بينما الدعوة للقتل تمارس علنًا، ويتم تبريرها سياسيًا ودينيًا وإعلاميًا؟.
إن لم يُكسر خطاب الجهاد الطائفي، فإن كل دعوة الى الاستقرار والاعمار والبناء ستكون مجرد غطاء لاستمرار الإبادات الجماعية تحت مسميات أخرى.
لذلك، لا خلاص لسوريا إلا في انهاء سلطة الجماعات الجهادية التي يقودها الجولاني. لا يمكن بناء مستقبل على جثث الطوائف، ولا يمكن لسوريا أن تكون دولة طبيعية إن لم تتسع للجميع. إن المشروع الوطني السوري يجب أن يكون مشروعًا جامعًا، لا مشروع تصفية حسابات.
لقد تحولت سوريا إلى مختبر للكراهية، ومعسكر لصناعة الجهاديين، وساحة لتصفية الطوائف، لكنّ ما يغيب عن الجميع أن المحرقة لا تبقي أحدًا، والمجرم الذي يذبح اليوم سيُذبح غدًا. لن ينجو أحد من هذا الجحيم إن لم تكن هناك وقفة حقيقية لإنهاء سلطة السلاح والهوية، وبناء سوريا المواطنة، لا سوريا المذابح.