TOP

جريدة المدى > سينما > "مووندوف": صورة اللبناني حين يُفارق أشياء يُحبّها

"مووندوف": صورة اللبناني حين يُفارق أشياء يُحبّها

نشر في: 13 مارس, 2025: 12:03 ص

قيس قاسم
ينشغل المخرج اللبناني كريم قاسم (1990)، مُجدّداً، بالمكان. يقارب تحوّلاته بمراقبة دقيقة للحاصل فيه من مسافة. حتّى في اللحظات التي يتدخّل فيها من قرب، لغرض تأكيد حالة درامية مُلِحّة، تخدم اشتغاله السينمائي، يتعمّد التمويه على ذلك التدخّل، فيُحيطه بضبابيةٍ تُعتّم على نوعه الفيلمي: وثائقي، لا خيالي أو ديكودرامي.
هذا الخلط يوفّر له حرية أكبر للتعبير عن رؤيته للمكان المعنيّ برصد تحوّلاته. بدا ذلك جليّاً في "Thiiird" (إنتاج 2023)، وفي مُنجزه الأخير "Moondove" (إنتاج 2024)، إذْ يتكرّر ثانيةً مع اختلاف في مستوى جرعات الدراميّ فيهما. في الفيلمين، يأتي إلى الحاصل في المدينة اللبنانية من أطرافها، من ضواحيها وقراها. تبدو القرية اللبنانية، في اللحظة التي تشرع الكاميرا في نقل مشهدها العام، هادئة يسودها سكون، كأنّها أظهرت نفسها في "ثيرد" بالأسود والأبيض. أما هنا، فإنّها بكامل ألوانها الطبيعية. ألوان تُقَرب شدّة اصفرار المحاصيل التي جفّت بسبب قلّة المطر، وشحّ مياه السقي. ليست المزارع وحدها تعاني نقص المياه، فالناس هنا يتوسّلون مستخدم البلدية غسان لتأمين القليل منه لهم.
شُحّ المياه جعل غسان، المُتعَب دائماً من تجواله على البيوت وسماعه الشكوى المتكرّرة لأصحابها من قلّة الماء الواصل إليهم، وعجزه عن توفيره لهم؛ هذا الشُحّ مركز الأحداث. دخوله بيوت القرية يوسّع مساحة المشهد الدرامي، وينوّع تقسيماته. يأخذ عيّنات منها، ويبحث عن المشترك بينها. لا الجفاف ولا انقطاع التيار الكهربائي الطويل، ولا حتّى شُحّ المياه، ما يُعكّر صفو العيش في قرية لبنانية جميلة. هناك الأقسى، الذي يختزن في أعماق أهلها، ويدفعهم إلى تفكير في تركها من دون رجعة.
من داخل المكان الطارد، ومن عنوان عمل مسرحي للهواة من أهل القرية، تتكشّف تعابير ذلك الوجع الغائر في النفوس، لما آلت إليه أحوالهم وأحوال بلدهم. "فراق"، عنوان عمل مسرحي يشترك في تمثيله غسان، الذي يُرشد خفية إلى مصائر حيوات، تتفاوت شدّة قسوتها على مَنْ يظهر منهم تحت ضوء قمر "مووندوف" الآفل. أبو عبدو مُصلح سيارات، يُعطّله قلبه المريض عن العمل. ابنه مُربّي الحمام، شغّيل في معمل خشب، يُفكّر في الرحيل ليتركه مع أخته، يواجهان مصيرهما في بلدٍ لا ضمان لهم جميعاً فيها.
يبدو حزن الشاب على حماماته، التي يبيعها ليشتري والده بثمنها خشباً يقيه برد موسم الشتاء المقبل، أكثر حزناً على فراقه قريته وبلده. مثله، يتعايش غسان مع قصّة حبّه الأول الخائبة. خجله أَخّر اعترافاته للمرأة التي أحبّها، فضيّعها. من بين انشغالاته الكثيرة، وتجواله بين البيوت ومحطّات تخزين المياه، يسرق وقتاً لمقابلتها في منزلها. لحظات رومانسية عابرة تُعوّض له بعض خساراته من فراق ترك وجعاً في قلبه، لم يُشفَ بزواجه امرأة أخرى.
يتدخّل كريم قاسم في تشكيل تلك المَشاهد، ويحيطها بجوّ مرح، يخالف الجوّ الذي أحاط بطله لحظة مواجهة حقيقة فراقه سيارته المهترئة القديمة، التي بدت كأنّها جزءٌ من شخصيته، من دونها تتعطّل حركته، ويبطل معناه كـ"منقذ" للقرية من عطشها. وسط ذلك الجو المنفر، يبدو الزوجان الثريان، سونا ونبيه، كأنّهما يعيشان في عالم مختلف. عالم داخلي قليل التماس بالخارج. مخاوفهما أشدّ على ما ينتظرهما بعد عمر عاشاه طويلاً معاً، والآن قد تحين اللحظة التي يفقد فيها أحدهما الآخر. الخوف من "فراق" رفيق العمر يأتي عبر مشاهد متقطّعة، توحي كلّ واحدة منها بأنّ أحدهما فارق الحياة فعلاً. لكنْ، بمهارة مُتخيّل سينمائي بارع، يعيدهما إلى الوجود ثانية. هذا يتماشى مع أسلوب كريم قاسم، المُراوغ المُتقصّد في خلط أنماط سرد حكائي، تكسر رتابة يفرضها المكان المعزول، وتعيد إليه بعض حيويته، وبعض ذكريات غامضة يريد الثريان طمسها.
في تسجيلات فيديو قديم، يعرضه الزوج في منزلهما، يظهر شابٌ وطفلة يلعبان معهما، ويتراشق الجميع فرحين بكرات الثلج الهاطل على المدينة. غيابٌ لا يتحدّث أحدٌ عنه، ولا مووندوف. يترك صانعه البارع للمتفرّج حرية تشكيل تصوّره الخاص عنه. هذا يشبه، إلى حدّ بعيد، ما ينشده كريم من فيلمه. يترك تفسير ما يجري في القرية ـ وما تعانيه من مشاكل، تبدو الدولة غير معنية في البحث عن حلول لها ـ للمُشاهِد وحصافته. ما يهمّه ويشتغل عليه تشكيل صورة القرية بأكبر قدر من الجمال (تصويره وإخراجه، إلى مشاركته كتابة السيناريو مع ناديا حسن)، لأنّه يريد أساساً التركيز على الجماليات البصرية الناقلة مشهد القرية، المهمومة كأهلها بأثقال لا قدرة لها على حملها، تماماً كالبلد المُثقل بمشاكل سياسية واقتصادية، تجد تعبيراتها الموضوعية في مدنه، وفي المناطق المحيطة بها، وما على السينمائي سوى وضع كاميرته أمام بيوتها ليستكشف عبر عدساتها عوالم حزينة ومُتعِبة، تدفع أصحابها إلى البحث عن مكان آخر غيرها، تحت عنوان غير مُعلن، يمكن تسميته، كالمسرحية، "فراق".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

تاريخ الأسطورة الفاوستية

قناطر: متاحفنا بلا زائرين. . لماذا؟

انتهاء مباحثات الرياض بين ممثلي كييف وواشنطن من دون الإعلان عن هدنة

قضية الناشط التشريني إحسان أبو كوثر تتفاعل: والده تعذب في مراكز الاحتجاز!

الحرب الباردة بنسختها الثانية

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

من الذاكرة: رحلة (فيروز) السينمائية

فيلم يونان لأمير فخر الدين في المسابقة الرسمية لمهرجان فيسكال السينمائي

"سنذهب ".. فيلم عن نهاية الحياة: بيير لوتين يرافق هيلين فينسنت في رحلة برية أخيرة قبل الرحيل

مقالات ذات صلة

فيلم يونان لأمير فخر الدين في المسابقة الرسمية لمهرجان فيسكال السينمائي
سينما

فيلم يونان لأمير فخر الدين في المسابقة الرسمية لمهرجان فيسكال السينمائي

ميرفت علاء ينافس فيلم يونان للمخرج أمير فخر الدين في المسابقة الرسمية لمهرجان فيسكال السينمائي للفيلم الإفريقي والأسيوي والأمريكي اللاتيني بإيطاليا يوم غد، حيث يشهد عرضين خلال فترة المهرجان، 25 مارس مساءً ويتبعها ندوة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram