طالب عبد العزيز
ينقطع الشتاءُ فجأةً في البصرة، ويحلُّ الربيع، قصيراً عجِلاً جداً، ثم يدهمنا الصيف، فلا يحدوه أملٌ بالمضي والزوال، هو الاطولُ والاقسى، والاصلف والاعتى، لكنَّ الأيام هذه أو ما تبقى من الربيع هي الاجمل عندي، لأنها موصولة بحبل الطفولة، القصير أيضاً. رائحة الأرض التي مازالت تحتفظ بآخر قطرات المطر، وألوانُ الورد، وإنْ كان قليلاً، وعبقُ حبوب الطلع، والنسائمُ الخديجة أول الفجر، وصورةُ السماء على صفحة النهر، وإن كانت لا ترى دائماً، وتجوالي الصباحيّ، وتفقّدي الفسائل التي غرستها، قبل أسبوعين، ونداء الضفادع لبعضها قبيل الغروب والمساء الذي يهبط بمظلته خلف دوحة الحنّاء.. وسواها هي ما يجعلني سعيداً!! هل سبقت مادةُ الضجرِ مادةَ السعادة؟
نتحدث عن السعادة بوصفها منّةً! ونتحدث عن الحبِّ كما لو أننا جُبلنا على الكره، ونستعجل التنعم بالربيع لأنَّ الصيفَ يتعقّبه! وهكذا، صارت حياتنا في الجزء المستخلص من الأصل، ألا تقول القاعدة بأنَّ الأصل الخير؟ ترى، اليس من حقِّ الانسان على نفسه أن يكون سعيداً؟ أنا سعيدٌ اليوم! والله، سعيد، فقد قرأتُ مادةً بعنوانٍ غريب هو (الإلحاد والملحد:-التكبّر على خلق الله؟ سامي الذيب- حاكم تفتيش-؟ بقلم أمين بن سعيد، منشورة على موقع (الحوار المتمدن) بعث بها الي أحدُ الأصدقاء، الذين أحبّهم، مادة وقعت في نفسي وقع الضمادة على الجرح. المشتغلون في الفلسفة وصناعة الأفكار يجعلوننا نفكر بشكل صحيح، يأخذون بأيدينا الى شواطئ الطمأنينة، فهم لا يفترضون بوجود شواطئ للخوف، لأنَّ الأصل الطمأنينة، مثلما يكون الأصل الخير والنماء والحبُّ.. . الخ. أدعوكم لقراءتها.
ولأنني ما زلت أسيرَ طفولتي بعد، ولأنَّ الربيع مازالَ بعدُ يتنزل في الصباحات، وآناء المساءات فسيحقُّ لي أنْ أمضي سعيداً، دشداشتي بيضاء، ونعلي أسود، ورشة ماء الكولونيا تعبق بوجهي، أعددتُ الفطور لنفسي، ومن القهوة تصعدُ خيوطٌ بيضاء، تشفُّ في فضاء الصالة. النافذة مشرعة، والستارة جامدة، أو تكاد، ونداء البلبل يطغى على نواح الفاختة. المنجلُ، خاصتي، بيدي، أتفادى به ما يصادفني من سعف وأغصان وحلفاء، فقد يُلجئني الى بتر هذه وتلك. الشمس ما زالت في غيابتها.. هي سويعات أحرص على جعلها ممكنة، فقد نام مؤذن المسجد، بصوته الذي لا أحبّه، ظلَّ هامداً بالقرقرة والوغوغة التي هو عليها، ولم يئن موعد مرور بائع العتيق والخردوات، بمكبر صوته المزعج، وكذلك تأخرَ صاحب البقالة وسواهم، من الذين يلوثون الفضاء بأصواتهم كلَّ ساعات النّهار. ثمةَ ما هو هادئٌ الآن في روحي.
أمسِ، صرمتُ حزمةً من طلع الفحول، التي أفحلت باكراً، بسبب المطر والرطوبة، وتركتها في مَشْمَسةٍ من الأرض، على أمل تفريقها، وجعلها في شماريخ، انشرها فيما بعد، على حبل، بين نخلتين، بمأمنة عن عبث الأطفال، فهي مما أدخرهُ للإناث، التي لم تطلع بعد. يسمّي أهلُنا عملية تطليع بعض الفحول قبل أقرانها بـ(الزهوق) وهي لفظٌ عربيٌّ في أصله، وهم يقولون زهقت النفس: خرجت من الجسد، لذا، فالطلعُ يزهق، يفتق الليف، ويخرج عنه، في غير موسمه، ويسمّون الفسيلة التي تقطع من أمّها بالفطيمة.... واو، ما الذي جاء بي الى هذه الفرضة الضيقة من اللغة، التي لم يعد يتداولها إلا القليل اليوم. كنتُ قد فكرتُ بكتابة معجم للألفاظ في ابي الخصيب، لكنْ، سبقني الى كتابته أحدُ الخلّص من الخصيبيين، هو الدكتور عادل الحنظل، الذي أنجز المعجم، فجعله ضامناً لما كان على السنة الأهل هنا في الارخبيل الرطب.
قبل أنْ أشرع بكتابة البارت الأخير في المقالة هذه أضطرتني مكالمة من أحد الأصدقاء الى ترك طاولة الكتابة، والمشي باتجاه بيت الخطار، حيث ما تزال الساقية مترعة بالماء، الذي أجريته فيها بعيد الفجر يقليل، أظنها أخذت نصيبها منه، فكان لزاماً أنْ أجعله يجري في اتجاه آخر، لكنَّ حشد العصافير التي اجتمعت عليها أخذتني الى مقولة حقّي في الأتاحة والمنع، أتراني أملك حقّاً في تظميئ الكائنات المسكينة تلك؟ قطعاً لا، فالأصل الاتاحة! التي منها السعادة حيث نشدتُ منذ الفجر.









