خالد مطلك
في مشهدٍ معماريٍّ تلتهمه الأبراج الكونكريتية وبعض الواجهات الزجاجية التي تتجاهل بيئتها، يأتي مبنى مستشفى اليمامة في بغداد كأيقونةٍ تعيد تعريف العلاقة بين المادة والضوء، وبين التراث والحداثة. فهذا المشروع، الذي صممته المعمارِيَّتان نور مكية ومروة الدبوني من خلال مكتبهما " WMN Ateleir " كمحاولة لاستعادة الطابع المحلي، وإعادة ابتكارٍ لواجهة معمارية ذات قيمة جمالية ووظيفية عالية، تستلهم روح المكان دون أن تنغلق على الماضي. باعتبارها أول ممارسة معمارية في العراق تقودها امرأتان تدمج رؤيتهما صرامة حداثة نيويورك (حيث تدربت نور وعملت) مع دقة الوضوح الهيكلي الألماني (حيث تمارس مروة وظيفتها) كل ذلك مع الحفاظ على انسجامها العميق مع روح عاصمة بلدهما بغداد.
لا يتباهى مبنى اليمامة ببساطة بأنه "حديث"، ولا يكرر الماضي دون تفكير. فهو يضم مجموعة معقدة من العناصر التقليدية التي تم تحويلها من خلال التكنولوجيا المعاصرة. استخدمت المصممتان الطابوق المحلي، ووضعتاه في ترتيب بارامتري حديث لإنتاج واجهة فعالة بصرياً ومناخياً. على هذا النحو، يقف المبنى كمنفستو معماري يعيد تفسير المواد المحلية (أو القريبة منها) في ظل حساسيات التصميم العالمية، مما يؤكد على أن هناك حلولا أخرى في الربط بين القديم والجديد.
من هنا يمكن القول إن هذه البناية تمثل نموذجاً جيداً وبسيطاً لعمارة الإقليمية المعاصرة (Contemporary Regionalism)، حيث تتلاقى التقنيات الرقمية مع الاستجابات البيئية لتوليد تجربة معمارية تتفاعل مع المناخ والمحيط العمراني. تتميز الواجهة بتكوين ديناميكي ثلاثي الأبعاد يحقق توازناً مثالياً بين الجماليات والوظيفية، حيث تخلق الأنماط البارامترية تأثيرات ظل ونور متغيرة تعزز البعد البصري والحراري للمبنى. هذه المقاربة تقترح البعد الجمالي، وتؤدي وظيفة بيئية ذكية، إذ يتيح نمط التوزيع الطابوق المنحوت، المستند إلى مفهوم "نحت الفراغات لعبور النسيم" (Etching Spaces for the Breeze)، مرور الهواء الطبيعي، مما يعزز التهوية الداخلية ويقلل من الحاجة إلى التكييف الميكانيكي.
إن نظرة فاحصة بالصورتين (1) و (2)، تكشف عن أنماط معقدة وموزعة بعناية. ما يسمى ب "صلابة" المبنى، الذي هو في الواقع مثقب بمهارة. وهذا النهج يضفي على الكتلة دفئاً فاتناً. بدلا من تقديم جبهة لا تنضب، تتنفس الواجهة مع إيقاعات ضوء الشمس اليومي - وهي سمة مميزة لما يمكن تسميته ب "بالتزيين الوظيفي".
بالمقابل، تقترب البناية بخجل من توجهات العمارة التقليلية (Minimalism) من خلال بساطة التكوين، والتعامل الذكي مع الفراغات، والاقتصاد في التفاصيل. المواد محدودة، ولكنها مستخدمة بذكاء: الطابوق، والزجاج، حيث يتم استغلال كل عنصر لتحقيق أقصى قدر من الأداء الوظيفي دون إضافة عناصر زائدة. تضمن هذه البساطة حضوراً معمارياً هادئاً، والذي يؤكد نفسه بعيداً عن الزخرفة المتوهجة، ولكن من خلال التعديل الذكي للضوء والظل، والتفاعل بين الأسطح المفتوحة والمغلقة.
لست متأكداً كم أن هذه التوليفة تقترب من أفكار السويسريان جاك هيرتسوغ ودو مورون لناحية عمارتهما التجريبية، التي تجمع بين المواد التقليدية والتكنولوجيا من خلال دمج البساطة الشكلية مع تفاصيل مادية معقدة، مما يجعل أعمالهما في حالة تفاعل مريح وغير مباشر بين ما بعد التقليلية والبارامرتية لا سيما في استخدامها الصريح للمواد الخام، حيث، وفي بعض الأحيان، يتم إبراز الطابوق كعنصر إنشائي أساسي دون تغطيته أو إخفائه، مما يخلق إحساساً بالقوة المادية والملمس العميق. كما أن وضوح الكتلة الهندسية وصرامة التكوين يعكسان شيئاً طفيفاً من تلك الأفكار، لكن بأسلوب أكثر انفتاحاً وتكيفاً مع المناخ.
(في الصورة (5)، لقطة مقربة لطبقات الطابوق، تظهر كيف تخلق هذه العناصر المتكررة إيقاعاً محسوباً، شبه موسيقي، عبر الواجهة.)
ومع ذلك، على الرغم من صلابته الخارجية، فإن تصميم اليمامة يتردد صداه بقوة مع ما يمكن تسميته "العمارة البارامينيمية" Paraminimal Architecture، وهو نهج يجمع بين المنهجيات البارامترية (الحسابية أو الخوارزمية) والمبادئ البسيطة. بدلا من تجسيد الثقل الخام النموذجي للوحوشية بوصفها فلسفة معمارية أوسع من التركيز على المواد الخام والوظائف والشكل العاري. يدمج مبنى اليمامة الزخرفة الدقيقة من خلال الطابوق المعياري الصغير والشبكات البارامترية، والتي تأخذ طابعا "لطيفاً، ولكنه محسوبا بعناية" gentle but carefully calculated يخفف من كتلة المبنى بتفاصيل منسقة بدقة.
(من الصور المرفقة (1 و 2)، يمكن ملاحظة هذه الازدواجية: يبدو الهيكل ضخماً، ومع ذلك تتكون الواجهة من وحدات من الطابوق الناعم الحبيبات التي تشكل نسيجاً متطوراً ومتطوراً باستمرار من الضوء والظل.)
الواجهة: الأداء الجمالي والوظيفي
الحديث عن مبنى مستشفى اليمامة يتعلق بشكل أساسي بواجهتها، حيث تندمج المواد والظل والفضاء في النسيج المميز الذي يضفي عليها هويتها. لم يكن اختيار الطابوق، كما أسلفت، خياراً عاطفياً ولا مجرد إحياء، جاء استجابة محسوبة لمناخ بغداد والمتطلبات الوظيفية للعمارة الحديثة في المدينة.
يمثل اللون الخام المستخدم في الواجهة، انزياحاً بصرياً بدرجة ما، فلطالما ارتبطت بغداد بالطابوق الأصفر الباهت، وأصبحت متأصلة في الذاكرة البصرية للمدينة. ومع ذلك، يتحدى المبنى هذه النظرة بنبرة أعمق قليلاً وأكثر دفئاً. لا تكسر تماماً التقاليد بقدر ما تعيد تقديم الطابوق بطريقة أكثر جاذبية.
فبينما يتوقع الكثيرون الطابوق الأصفر الباهت المعتاد، فإن واجهة المستشفى تقدم لوناً أكثر ثراء بمهارة، كما هو موضح في الصورة (3). وهذا أكثر من مجرد بيان مرئي. يسمح للواجهة باللعب بالضوء والظل والملمس، حيث ينحرف الطابوق عن صيغته التقليدية، ليظهر هنا بلون أحمر طيني غني، مفعم بالحياة ليمثل مفارقة مقصودة: كسر ناعم لتقاليد البصر، ومغامرة في اللعب بالمواد الخام لأغراض جمالية لا تصادر حدود المألوف. ومن خلال ضبط نتوءات وحدات معينة من الطابوق، تمكنت المعماريتان من تعظيم التظليل بالضبط حيث تكون شمس بغداد أكثر كثافة، لا سيما عند التقاطع حيث تلتقي واجهتان.
(الصورة (4) توضح التنوع المميز للطوب المريح والبارز، مما يبين كيف تتلاقى الوظيفة والجماليات في "بشرة تتنفس بحرية" تظلل وتهوي المساحات الداخلية)
بالنظر إلى أن الصيف في بغداد حاراً للغاية، فإن اختيار الطابوق كان أيضا ضرورة وظيفية. تم تصميم واجهة اليمامة لتشجيع التهوية الطبيعية والتبريد السلبي - إحياء للاستراتيجيات القديمة الموجودة في المنازل البغدادية التقليدية.
تقوم الفتحات والفجوات في نمط الطابوق بتوجيه الهواء النقي إلى الممرات والمناطق العامة، مما يقلل من الاعتماد على أنظمة التدفئة والتهوية وتكييف الهواء الميكانيكية. ويلقي الطابوق البارز في الأقسام الأكثر تعرضا لأشعة الشمس المباشرة بظلال أعمق، مما يؤدي إلى تبريد السطح، فيما يدخل ضوء النهار المفلتر إلى الداخل، مما ينتج عنه أنماط متغيرة من الضوء والظل على مدار اليوم – صدى لفكرة "الحوش" في بغداد القديمة. ففي الداخل، يحتفي التصميم بالضوء كعنصر حيوي، حيث تلقي الفتحات المدروسة أنماطاً ضوئية متغيرة على الأرضيات والجدران، مما يخلق تجربة حسية تتفاعل مع الزمن والمناخ. كما تعزز الأرضيات الخشبية والجدران المحايدة الشعور بالدفء والبساطة، مما يجعل المساحات أكثر انسيابية وتركيزاً على جودة الضوء والهواء.
(الصورة (6) تعرض التفاعل المتقن لأنواع الطابوق "1" و "2"، المستخدمة بكميات أكبر حيث تكون كثافة الطاقة الشمسية أعلى، وتشكل نظام تظليل بارامتري.)
إعادة بناء هوية محلية في إطار عالمي
في عالم مليء بالتعبيرات المعمارية العامة - لا سيما الأبراج الزجاجية التي لا تناسب المناخات المحلية دائما - يؤكد مبنى اليمامة من جديد أنه لا يزال من الممكن ترسيخ الحداثة على المستوى الإقليمي. هذا لا يعني الحنين إلى "العمارة التقليدية"، ولا يعني تبني جمالية عالمية بحتة تقتلع الهوية المحلية. بدلا من ذلك، تقدم المعماريتان نور مكية ومروة الدبوني حلاً وسطاً، حيث تعزز التقنيات الحديثة والمواد المحلية بعضها البعض. والنتيجة ليست راديكالية مثل أشكال زها حديد البراقة ولا متحفظة مثل المبنى البغدادي العامي البحت. فالمبنى يجسد حضوراً متميزاً - واثق من نفسه ومدرك للسياق ومتقدم، ومتجذر كذلك.
نقطة انطلاق لهوية معمارية جديدة في بغداد
إذا كان لبغداد أن تعثر على المستقبل المعماري، فلن يتم العثور عليه من خلال استيراد أشكال غريبة أو الإفراط في تكرار زخارف الحنين إلى الماضي. تتطلب المدينة نهجا يعيد النظر في الرابطة بين الشاغلين والمناخ، والواجهة وضوء النهار، وتوازن الحداثة مع التقاليد الثقافية.
وأخيراً، ومن خلال تصميم نور مكية ومروة الدبوني، تقدم المدينة نموذجاً جديداً لكيفية ظهور مبانيها المستقبلية وعملها وشعورها. في الوقت الذي تبحث فيه المدينة عن الاتجاه، يمكن أن يبشر هذا المبنى برؤية جديدة من الهندسة المعمارية الحساسة للسياق والمتناغمة تقنيا. إنه مشروع يعيد ذاكرة بغداد إلى دائرة الضوء المعمارية دون المساس بجوهر المدينة.
(الصورة (7)، المأخوذة من زاوية أوسع، توضح كيف يقف المبنى داخل بيئته الحضرية - متميزا في نمطه، ولكنه يحترم السياق. النتيجة: انسجام بين المبادئ البارامترية الحديثة والمعرفة المحلية التي تم اختبارها عبر الزمن.)
بناية "اليمامة " في بغداد: الفرادة خارج المشهد الكونكريتي

نشر في: 17 مارس, 2025: 12:02 ص