ستار كاووش
ماذا يعني أن يكون هناك أسبوعاً للكتاب، وفي بلد مثل هولندا؟ هذا يعني أن تتآلف الناس مع الكلمات وتعيش وسط معانيها، حيث يستعد الكثيرون هذا الأسبوع لرحلتهم الممتعة مع الحكايات التي لا تنتهي، والقصص التي تصنعها الكتب، مع الشعر وقوة الكلمة، مع العلوم والفلسفة والتنوير الذي لا يخفت ضوءه، مع اليوميات المرسومة بعناية كأنها وشم على جسد إمرأة جميلة، مع المذكرات التي تعلمنا قول الحقيقة دون تزويق وبلا مواربة، كذلك مع العلم، وأيضاً مع الخيال الذي ليس له حدود. الكتب هي كنوز هذه الأرض التي نعيش عليها، وهي شعلة عقولنا حيث تجتمع القوة مع المحبة والتواصل مع الآخرين، وهي التي تُقَرِّبَ الأشياء البعيدة المنتشرة على بقاع هذه الأرض. الكتاب هو سحرنا الذي لا يخفت بريقه وهو الثروة التي يكتنزها الانسان في روحه وقلبه. الكتاب هو الذي يحررنا من الجهل، وهو الصديق الذي يمد لنا يده ويسندنا وقت الحاجة، أنه المقابل الحقيقي للأمل. الكتاب هو الكلمة.
هكذا إنتشرت فعاليات أسبوع الكتاب في هولندا، حيث بدأت القراءات على المسارح والقاعات والأماكن المختلفة. هكذا يهتم الهولنديون بلغتهم ويحتفلون بها في هذا المهرجان الفريد الذي يكبر حجمه في كل سنة جديدة، وتنشغل به وسائل الاعلام بشكل واسع. هكذا تجدّد الحياة الثقافية والشعبية شيئاً من حيويتها بحلول التقليد السنوي الذي مرت عليه تسعون سنة كاملة دون توقف، تسعون سنة من البهجة والمعرفة والوجوه التي تعطرت برائحة الكتب، والأفكار التي تَزَيَّنَتْ بحبر الطباعة.
فماذا يعني أسبوع الكتب هنا في هذا البلد الذي يحتضن الجمال كما يحتضن الخضرة والماء والوجوه الحسنة؟
يعتبر هذا المهرجان من أهم الفعاليات الثقافية التي تقام في هولندا، لأنه مهرجان للقراءة، حيث يتم اختيار موضوعاً أساسياً كل سنة كثيمة للمهرجان. وموضوع هذه السنة هو (اللغة الأم) والذي فتحَ الباب للكثير من التنويعات الجميلة والمهمة على الكتب التي كُتِبَتْ باللغة الهولندية، والتي إهتمَّ الكثير منها بالتغييرات التي تحدث تباعاً للغة وتساهم بدخول كلمات جديدة وصياغات غير متوقعة ومعاني متشعبة. ولجعل هذه المناسبة إحتفالية أكثر، فقد فتح مائتي متحف من متاحف البلاد أبوابها لتستقبل مجاناً كل من يشتري كتباً بخمسة عشر يورو أو أكثر، وبما أن هذا المبلغ هو أقل ثمن لكتاب، فهذا يعني أن الجميع سيدخلون المتاحف التي تحتفل بهذه المناسبة وتُقيم الأمسيات والقراءات.
هنا تحتدم النقاشات وتتداخل الأفكار في الندوات التي تعنى بحماية الكِتاب والدفاع عنه والوقوف ضد كل ما يجعله بعيداً عن متناول اليد. فلا شيء في العالم أعظم من كتاب جديد خرج تواً من المطبعة، وليس هناك أجمل من أن تمسك كتاباً وتُقلب صفحاته التي تنقلك الى أحداث بعيدة ومناخات غير متوقعة وتضعك في أماكن مليئة بالسحر والغموض والمعرفة.
وبالعودة الى موضوع هذه السنة (اللغة الأم) والتي تعني -حسب ما هو متعارف عليه- لغة أمك أو أهلك. لكن هذا ليس ضرورياً دائماً، فهناك الكثير من الكتاب الهولنديين مثلاً، لم تكن الهولندية هي لغتهم الأولى التي سمعوها وتعلموها من أهلهم، مع ذلك يتعبرونها لغتهم الأم، لأنهم يفكرون بها ويكتبون بها نصوصهم ويعبرون من خلالها عن مشاعرهم. وبذلك يمكن أن تكون لغة الأم واحدة من اللهجات أو حتى لغة الشارع. وهكذا فلغة الأم هي اللغة التي تعبر بها عن أفكارك، تتحدث بها، تغني بها، تكتب بها القصائد، مثلما تُقْسِمَ بها، هي اللغة التي تشجع بها فريقك المفضل، هي اللغة التي تُحِبَّ بها.
هكذا يأتي أسبوع الكتاب كل سنة مثل طائر خرافي يفرش جناحيه فوق سماء الأراضي المنخفضة، ثم يقترب من الأرض، ليملأ المزارع بالكتب والبهجة، يوزع المعارف على الحقول الخضراء الممتدة نحو الأفق، ويهب المكتبات وقاعات القراءة الكثير من الحب الممزوج بالحكمة. وحين تنتهي أيامه السبعة، يفتح هذا الطائر جناحيه من جديد، يُحَلِّقَ بين الغيوم، ويمضي بعيداً ليهيئ نفسه للسنة الجديدة التي ينتظرها الناس بكل ترقب ومحبة.
عشت أجواء هذا الأسبوع وتابعتها بلهفة، واستعدتُ معها أيامي في مدينة روتردام، حيث إشتريتُ قبل ثلاثة وعشرين سنة وفي ذات المناسبة كتاب (حاملي الثلج) للكاتبة آنا إنكويست. وقتها لم أكن قد تعلمت الهولندية جيداً، لكني اشتريته لأنه كان بإمكان من يشتري كتاباً بذلك اليوم أن يتنقل في قطارات البلد مجاناً ليوم كامل، وهكذا إستثمرتُ هذه الفرصة العظيمة للذهاب مجاناً من مدينة روتردام جنوباً نحو متحف خروننغن شمالاً لزيارة معرض الفنان العبقري إيليا ريبين، وهناك رأيت كيف أن الناس الذين جاءوا لمشاهدة المعرض، يقفون بطابور إمتدَّ لنصف كيلومتر تقريباً من المتحف الى مركز المدينة، في سابقة لم أرَ مثلها في حياتي. ومنذ تلك الذكرى الجميلة، أحببت أسبوع الكتاب وتعلقت به، وصرت أنتظره كما ينتظره الملايين الذين يستعيدون ذكرياتهم وايامهم الجميله من خلاله.