محمد صبّاح
إن الصهيونية، بوصفها تجلياً من تجليات القومية الإثنية في سياق الحداثة الأوروبية، لم تكن سوى أحد الأشكال المتأخرة للمشروع الإمبريالي الغربي الذي لم يكن ليحيا دون نفي الآخر وطمس حقوقه. لقد تشكلت هذه النزعة القومية الصهيونية في لحظة احتدام التناقضات الداخلية لأوروبا، حين بدأ اليهود المنعتقون من أصفاد الغيتو يواجهون، لا قبولاً اندماجياً خالصاً، وإنما شكلاً جديداً من معاداة السامية، تجاوز التصورات اللاهوتية القديمة نحو تصور حداثي يرى في اليهودي، لا مجرد شخص مختلف دينياً، بل منافساً ثقافياً واقتصادياً في فضاء الدولة القومية الحديثة.
من هنا، لم يكن مشروع تيودور هرتزل إلا محاولة استباقية لإعادة إنتاج الذات اليهودية ضمن أنموذج الدولة-الأمة، بما يتجاوز ازدواجية الاندماج والرفض التي طبعت تاريخ اليهود في أوروبا. فحينما وقف هرتزل أمام مهزلة دريفوس في فرنسا الجمهورية، لم يكن يراقب مجرد حادثة قضائية، بل كان شاهداً على الحقيقة الصلبة التي حاول الاندماجيون إنكارها: أن المسألة اليهودية ليست مسألة فردية تحل بالتنوير أو بإعلان الحقوق، بل مسألة قومية تتطلب حلاً سيادياً جذرياً. وكما قال هرتزل نفسه: "إذا أرادت أوروبا التخلص منا، فعليها أن تساعدنا على بناء وطننا".
لكن الوطن هنا لم يكن سوى مفهوم متحرك، غامض، قابل للمساومة والتفاوض. فالصهيونية، كحركة براغماتية، لم تكن تستند إلى قداسة الأرض بقدر ما استندت إلى مصلحة الدول الكبرى في إعادة تشكيل الخرائط الاستعمارية. هل فلسطين، أم الأرجنتين، أم أوغندا؟ لا فرق جوهرياً بالنسبة لهرتزل، ما دام الهدف إقامة دولة "على غرار الدول الأخرى"، حيث يستطيع اليهود العيش كأمة طبيعية في فضاء الحداثة السياسية. فهو لم يكن معنياً بقدسية التوراة أو بتقاليد الشتات، بل بما سماه "السيادة على قطعة من سطح الأرض"، وهي لغة تعكس البرودة السياسية والوظيفية لهذا المشروع. فكما قال ماكس نوردو، أحد أبرز مفكري الصهيونية: "نحن لا نبحث عن وطن روحي، بل عن أرض تصلح لتكون قاعدة لسيادتنا".
حين انعقد المؤتمر الصهيوني الأول في بال عام 1897، لم يكن هناك التباس في أن فلسطين ستكون الخيار المفضل، لا بسبب نزعة توراتية، بل لأن جغرافيا الشرق الأوسط الاستعمارية كانت توفر أرضية خصبة لهذا المشروع. فكما قال هرتزل: "في فلسطين، سنكون حراساً للغرب أمام البربرية الشرقية"، وهو تصريح يضع الصهيونية في قلب المخيال الإمبريالي الأوروبي، حيث الآخر ليس إلا عائقاً أمام تمدين الصحراء وتحقيق "رسالة الحضارة".
لكن، كما هو حال كل المشاريع الاستعمارية، لم يكن الطريق إلى فلسطين مباشراً، إذ سرعان ما وجدت الصهيونية نفسها في مفترق طرق بين المبدأ القومي والمصلحة السياسية. وهنا ظهر الخيار الأوغندي، الذي جسد التوتر العميق بين الصهيونية كحركة قومية والصهيونية كحركة سياسية. بالنسبة لبعض قادة الصهيونية، مثل إسرائيل زانغويل، لم يكن مهماً أين تُقام الدولة، طالما أنها ستمنح اليهود فضاءً سيادياً، فقد قال بوضوح: "لا يهم أين، المهم أن نحصل على الراية التي ستوحدنا". بينما كان المعارضون، من أمثال يوسف حاييم برينر، يرون أن "الشعب الذي عاش منفياً قروناً لا يمكن أن يبني هويته على أرض مؤقتة". هنا اصطدمت الصهيونية بحقيقتها الداخلية: هل هي مشروع قومي أم مجرد استجابة وظيفية للاضطهاد الأوروبي؟ هل هي حركة تحرر أم ذراع استعماري؟
لم يكن المشروع الأوغندي سوى إزاحة مؤقتة، سرعان ما تهاوت بعد وفاة هرتزل، لتعود الصهيونية إلى خيارها الفلسطيني. لكن العودة لم تكن عودة إلى وطن، بل إلى برنامج استعماري متكامل، يتوافق مع احتياجات القوى العظمى ويعيد تشكيل الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط بما يضمن ولادة "الدولة اليهودية" من رحم الخرائط الإمبريالية. وكما كتب هرتزل في يومياته بعد مؤتمر بال: "لقد أسست الدولة اليهودية، وربما لن يدرك العالم ذلك إلا بعد خمسين عاماً".
الصهيونية إذن، لم تكن سوى تعبير حديث عن نزعة استعمارية تلبست قناع القومية، وحينما حُسم الخيار الفلسطيني، لم يكن ذلك بفعل قوة التاريخ، بل بفعل توازنات القوى. ولو أن بريطانيا أو ألمانيا منحتا لليهود ميثاقاً استيطانياً في الأرجنتين أو قبرص، لكانت تل أبيب اليوم في أميركا الجنوبية، ولكان الحلم الصهيوني قد تحقق في سهول البامبا أو على ضفاف النيل. وكما قال دوف بير بوروخوف، أحد منظري الصهيونية الاشتراكية: "ما يحدد وطننا ليس الذاكرة، بل المصالح السياسية".
بهذا المعنى، ليست الصهيونية سوى النسخة اليهودية من الكولونيالية الأوروبية، حيث الأرض ليست سوى مادة أولية للمشروع السياسي، وحيث الهوية تتحدد، لا بحقائق التاريخ، بل بضرورات الجغرافيا. فمنذ البداية، كانت فلسطين مجرد خيار من بين خيارات عديدة، وكان "الوعد" مشروطاً بقبول الإمبريالية به، لا بقداسة النصوص أو شرعية التاريخ.
· كاتب فلسطيني










